تزهو مدينة هنين الجزائرية بتاريخها الغني الممتد عبر قرون طويلة، فهي واحدة من أبرز المدن التاريخية في ولاية تلمسان الواقعة في الشمال الغربي للجزائر، حيث استطاعت أن تحتفظ بمكانتها الثقافية والحضارية رغم تقلبات الزمن، لتصبح اليوم وجهة سياحية واعدة تجمع بين عبق الماضي وجمال الطبيعة، وتقدم لزوارها تجربة فريدة تنسج خيوطها بين التراث المتنوع والإطلالات الطبيعية الساحرة.
منذ العصور الفينيقية، عرفت هنين كمركز تجاري حيوي، حيث ارتبط اسمها بالملاحة والتبادل التجاري عبر البحر الأبيض المتوسط، ومع حلول العهد الروماني حملت أسماء عدة مثل “جبساريا” و”أرتيسيقا بورتوس”، لتؤكد بذلك مكانتها كميناء استراتيجي كان له دور بارز في حركة التجارة البحرية، وهو ما منحها زخماً حضارياً جعلها نقطة التقاء بين الشعوب والثقافات المختلفة.
إرث تاريخي
في عهد الموحدين، بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بلغت هنين ذروة تألقها، حيث تحولت إلى حصن منيع يحمي المنطقة من الغزوات، كما ازدهرت فيها التجارة بشكل كبير، فكانت السفن القادمة من أوروبا ترسو في مينائها حاملة البضائع لتوزع عبر شمال إفريقيا، مما منحها مكانة اقتصادية بارزة عززت من دورها كمركز تجاري وثقافي متفرد، وظلت الحياة اليومية فيها نابضة بالحيوية بفضل هذا الازدهار.
ولم تقتصر أهمية هنين على التجارة فقط، بل امتدت لتكون شاهداً حضارياً على تلاقح الثقافات، فقد جمعت بين بصمات الفينيقيين والرومان والعرب والمسلمين، وهو ما جعلها مدينة متعددة الأبعاد تحمل في طياتها قصصاً متشابكة عن عصور مختلفة، لتتحول إلى سجل مفتوح يروي حكايات التاريخ عبر أزقتها ومعالمها الأثرية.
موقع تراثي
اليوم، تدرج هنين ضمن القائمة الإرشادية المؤقتة لمنظمة اليونسكو، وذلك بفضل موقعها المتميز بجوار مدينة ندرومة وسلسلة جبال ترارا، حيث يجتمع التنوع الطبيعي مع الإرث الثقافي ليشكلا لوحة فريدة تستقطب الزوار والباحثين على حد سواء، فالمدينة تضم آثاراً رومانية وإسلامية، إضافة إلى معالم تعكس مختلف المراحل التاريخية التي مرت بها.
وتوفر جبال ترارا المحيطة بها مناظر طبيعية خلابة ومسارات جبلية تمنح عشاق المغامرة فرصة لاكتشاف البيئة البكر للمنطقة، ما يجعل زيارة هنين تجربة شاملة تجمع بين الاستمتاع بالطبيعة والتعرف على إرث تاريخي عريق، في مزيج نادر يجذب السياح من مختلف أنحاء العالم.
مستقبل سياحي
تسعى السلطات الجزائرية في الوقت الراهن إلى تعزيز مكانة هنين كوجهة سياحية عالمية، من خلال إطلاق مشاريع لترميم المواقع الأثرية وتحسين البنية التحتية بما يضمن استقبالاً أفضل للزوار، إلى جانب التخطيط لتنظيم مهرجانات وفعاليات ثقافية تعرف بالمدينة وتبرز مكانتها، وهو ما من شأنه تعزيز حضورها على الخريطة السياحية الدولية.
كما يشارك المجتمع المحلي في هذه الجهود عبر برامج توعوية وورش عمل تهدف إلى حماية التراث وصونه للأجيال القادمة، ليصبح السكان جزءاً فاعلاً في الحفاظ على هوية مدينتهم، بما يعزز ارتباطهم بتاريخها ويمنحهم شعوراً بالفخر والانتماء.
إن هنين ليست مجرد مدينة تاريخية، بل فضاء حي يسرد قصص الماضي بأسلوب يجمع بين المتعة والمعرفة، فكل زاوية فيها تحمل بصمة حضارية، وكل حجر فيها ينطق بذكرى عصور متعاقبة، مما يجعلها مكاناً يترك أثراً لا يُنسى في نفوس الزوار، ويجعلها بحق كنزاً ثقافياً يستحق الاكتشاف والتقدير.
المصدر: اليونسكو
