تُمثل “الناعورة” (أو جمعها النواعير) واحدة من أعظم الإنجازات الهندسية التقليدية في التراث الزراعي العربي، حيث تقف كشاهد صامت على عبقرية الأجداد في تسخير قوة الطبيعة لخدمة الحياة والاستقرار، فهي ليست مجرد آلة لرفع المياه.
تتجلى شهرة هذه العجلة المائية في منطقة بلاد الشام، وتحديداً في مدينة حماة السورية المطلة على نهر العاصي، حيث تنتصب نواعيرها الضخمة على ضفتي النهر، وتدور منذ قرون لإرواء الأراضي والبساتين.
تعد الناعورة نموذجاً فريداً للهندسة المائية التي تعتمد بالكامل على الطاقة الحركية لتيار النهر نفسه، دون الحاجة لأي قوة بشرية أو حيوانية إضافية، مما يجعلها مثالاً حياً للاستدامة التقنية القديمة.
يتكون بناء الناعورة بشكل أساسي من الخشب المقاوم للمياه، ويتم تجميع أجزائها الضخمة بدقة وحرفية عالية، حيث يمكن أن يصل قطر بعضها إلى عشرين متراً، مما يمنحها منظراً مهيباً، تثبت العجلة على محور ضخم يرتكز على قاعدتين ثابتتين في قاع النهر وضفتيه، وتتصل أطرافها ببعضها البعض لتشكل هيكلاً دائرياً متيناً قادراً على تحمل ضغط المياه والوزن الهائل، تُصمم أطرافها الخارجية لتحمل صناديق أو “قدور” خشبية صغيرة، تلتقط الماء من النهر أثناء دوران العجلة، فترفعها إلى أعلى نقطة في مسارها الحركي.

يُشغل تيار النهر الناعورة عن طريق دفع الألواح الخشبية المثبتة على محيطها السفلي، فعندما يمر الماء بقوة كافية، يبدأ الهيكل الخشبي في الدوران بشكل بطيء ومستمر،تُفرغ هذه القدور حمولتها من المياه عند وصولها للقمة في قناة مرتفعة تُبنى عادة من الحجر أو الطين، وتُعرف محلياً بـ “القوس” أو “الحزام المائي” الذي ينقل المياه إلى البساتين والحقول البعيدة،تُعد هذه القنوات الشريان الذي يغذي آلاف الدونمات الزراعية، مما سمح بإنشاء واحات خضراء دائمة في مناطق كانت تعتمد على الزراعة البعلية المتقطعة.
أدى الدور الحيوي للناعودة في توزيع المياه إلى نشأة منظومة اجتماعية واقتصادية معقدة حولها، حيث وُضعت قواعد صارمة ومنظمة لضمان توزيع المياه بعدل على جميع المستفيدين، تضمنت هذه القواعد نظاماً للقياس والتقسيم يُعرف باسم “الحصص” أو “القسمة”، التي كانت تحدد كمية المياه ومدة فتح القناة لكل مزارع، فكانت بمثابة قانون مائي عادل، ارتبطت هذه المنظومة بالتقويم الزراعي السنوي، حيث كان يُحدد موعد صيانة النواعير وإصلاحها في فترات انخفاض منسوب المياه، مما يؤكد على أهمية التعاون الجماعي في حفظ هذا الإرث.
لم يقتصر تأثير الناعورة على الجانب الاقتصادي والزراعي فحسب، بل امتد ليصبح جزءاً أصيلاً من الفلكلور والتراث الثقافي للمنطقة، وخاصة مدينة حماة.
يُعرف صوت الناعورة المميز بـ “الأنين”، وهو صوت احتكاك الخشب بالماء وتصاعده، وقد ألهم هذا الصوت الشعراء والموسيقيين على مر العصور، حيث أصبح رمزاً للحياة والخصوبة.
تُقام اليوم جهود كبيرة لحماية النواعير المتبقية وصيانتها، خاصة تلك التي تعرضت للإهمال أو الأضرار، وذلك لضمان استمرار دورانها كمعلم تاريخي وثقافي عالمي.
تُعد النواعير اليوم، مع تزايد الاعتماد على المضخات الكهربائية الحديثة، أكثر من مجرد آلة قديمة، فهي تمثل درساً في الهندسة المستدامة وكفاءة استخدام الموارد المتاحة.
تُسجل النواعير في قوائم التراث العالمي في بعض المواقع، مما يؤكد على قيمتها الحضارية والإنسانية، وعلى دورها في إثراء التراث الزراعي العالمي بتقنية مبتكرة وبسيطة في آن واحد.
يبقى صوت الناعورة الدوار شهادة خالدة على إبداع الأجداد، ودعوة مستمرة للاستفادة من حكمة الماضي في مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل المتعلقة بندرة المياه.
المصدر: ويكيبيديا