تمثل مدينة غدامس القديمة نموذجًا فريدًا للاستقرار البشري في بيئة صحراوية قاسية، حيث أسست على ضفاف نبع عين الفرس في منطقة ما قبل الصحراء، واحتفظت بهيكلها المعماري والاجتماعي طوال قرون متعاقبة.
تقع المدينة بين بحر رمل العرق الكبير وهضبة الحمادة الحمراء بليبيا، وتحيط بها بساتين النخيل، فيما تتداخل مساكنها الطينية وشبكة أزقتها المغطاة ضمن نسيج حضري محكم، يعبّر عن فهم عميق لطبيعة المناخ والموارد المحدودة.
تميزت المدينة بتصميم معماري تقليدي يقسم الاستخدامات بحسب الوظائف، حيث خُصص الطابق الأرضي لتخزين المؤن، والطابق الأعلى للسكن، بينما استخدمت السطوح المرتفعة كشرفات خاصة للنساء.
أما الممرات المسقوفة فقد وفرت مساحات ظليلة تتحكم بالحرارة، وساعدت على تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية داخل المدينة، حافظت هذه الهندسة على الخصوصية، ووفرت الحماية من تقلبات المناخ، وسمحت بحركة دائمة بين السكان.
ظهرت غدامس في المصادر التاريخية باسم “سيدامي”، وسكنها الفزانيون منذ الألفية الأولى قبل الميلاد، ثم خضعت للرومان والبيزنطيين، قبل أن تدخل تحت الحكم الإسلامي والحقبة العثمانية.
وشاركت المدينة منذ القدم في تجارة القوافل عبر الصحراء الكبرى، فكانت محطة استراتيجية على طريق الربط بين شمال إفريقيا ودول جنوب الصحراء، وهو ما منحها مكانة اقتصادية وثقافية بارزة.
بقيت المدينة مأهولة بالسكان حتى وقت قريب، واحتفظت بتقاليدها المعمارية والثقافية، من بينها أساليب البناء بالطوب اللبن والخشب المحلي، ونظام المياه الذي يديره المجتمع وفق ضوابط اجتماعية موروثة، مدونة في مخطوطات محفوظة.
وتشهد البقايا الأثرية الرومانية داخل المدينة، ومنها التحصينات والأضرحة، على تاريخ طويل من الغنى الحضاري والانفتاح الثقافي، كما توثق أعمال الزخرفة والأبواب والنوافذ المحفورة هذا التراث المعماري الفريد.
أُدرجت غدامس ضمن قائمة مواقع التراث العالمي عام 1986 لما تحمله من قيمة إنسانية استثنائية، ثم خضعت لخطة إدارة مدتها عشر سنوات شملت حماية تقنيات البناء، وصيانة نظام المياه، ومراقبة تأثيرات التغير المناخي، وتُنفذ هذه الخطط عبر شراكة بين مصلحة الآثار، والمجالس البلدية، وجمعيات أهلية، وجهات محلية ودولية أخرى.
وقد واجهت المدينة أخطارًا طبيعية مثل السيول والحرائق، ما دفع إلى تطوير آليات استجابة لإدارة المخاطر، وصيانة مستمرة للهياكل والأنظمة المائية، وخاصة تلك التي بدأت منذ عام 2008.
تُظهر مدينة غدامس أصالة معمارية عالية من خلال حفاظها على الشكل والمادة والوظيفة، وعلى الخصوصيات الثقافية التي ما زال السكان يمارسونها رغم توقف الإقامة الدائمة في النسيج التاريخي.
وتستمر الشرفات والطرقات المسقوفة، والفتحات العلوية المعروفة محليًا بـ”تيناوت”، في تشكيل الخصوصية الحضرية التي جعلت من المدينة مرجعًا في فهم أنماط الاستيطان الصحراوي.
يعتمد بقاء مدينة غدامس على إدراك سكانها لأهمية حماية تراثهم، وعلى مواصلة الجهود لإدارة التغيرات المناخية والحضرية التي تهدد توازن هذا النظام، وتستمر هذه المدينة كنموذج فريد في جنوب الصحراء الليبية، تحكي قصتها من خلال الطين والخشب والماء، وتحفظ ذاكرتها في شوارعها المغطاة التي ما زالت تنبض بالحياة.
المصدر: اليونسكو