تقف مدينة سيدي بوسعيد كتحفة معمارية تطل على خليج تونس من أعلى منحدر صخري يربط التاريخ بالبحر، وتقع على بعد عشرين كيلومترًا شمال شرق العاصمة، وتعد أول موقع محمي في العالم منذ قرون، حيث تأسست في العصور الوسطى لتصبح إحدى أبرز ضواحي تونس السياحية وأكثرها جذبًا للزوار الذين يقصدونها من مختلف أنحاء البلاد والعالم.
يقطن سيدي بوسعيد نحو خمسة آلاف نسمة يعيشون في أزقة ضيقة تنبض بالحياة وتتناثر فيها رائحة الياسمين والمشموم التونسي، وتتميّز المدينة بفن معماري فريد يغلب عليه اللونان الأبيض والأزرق، إذ تبدو البيوت كأنها امتداد للبحر والسماء، وتزيّن الأبواب الخشبية القديمة نقوش وزخارف دقيقة تحافظ على هوية المكان منذ قرون، لتروي كل بوابة قصة من تاريخها الطويل.
تُنسب المدينة إلى الولي الصالح أبو سعيد الباجي الذي عاش فيها متعبّدًا في القرن الثالث عشر، وكان معاصرًا للشيخ أبي الحسن الشاذلي، وقد اتخذ من ربوتها العالية مكانًا للعزلة والعبادة، فصارت تُعرف باسمه بعد وفاته، وتحوّل ضريحه إلى مزار روحي يقصده الزائرون والمتصوفة من كل مكان، مما أضفى على المدينة طابعًا روحانيًا مميزًا ظل حاضرًا في ملامحها حتى اليوم.
تشتهر سيدي بوسعيد بمقهى “العالية” الذي يُعد من أبرز معالمها السياحية، إذ يجلس الزوار على شرفاته المطلة على البحر ليستمتعوا بمنظر الأفق اللامتناهي، بينما تعبق الأجواء برائحة القهوة العربية وأغاني علي الرياحي التي تغنّت بجمال المكان، ويُعد المقهى مقصدًا دائمًا للسياح والمثقفين والفنانين الذين يجدون في أجوائه سكينة وإلهامًا.
في فصل الصيف، تتحوّل المدينة إلى مسرح مفتوح للاحتفالات الشعبية، حيث تُقام “خرجة سيدي بوسعيد” التي تجوب فيها فرق العيساوية الأزقة مرددة المدائح ومصحوبة بأصوات الدفوف والبخور والزغاريد، لتملأ الأجواء بنبض الفرح والروح الصوفية التي تعبّر عن عمق الموروث التونسي، كما تنتشر في الشوارع أكشاك تقدم “البمبلوني” التونسي الذي صار رمزًا من رموزها الشعبية.
تُعد سيدي بوسعيد نموذجًا متكاملًا للهندسة التقليدية في تونس، إذ تمتزج فيها العمارة الأندلسية بالخصوصية التونسية، ويُلاحظ الزائر كيف تتناغم الممرات الحجرية الضيقة مع الأقواس والزخارف، وكيف تشكّل النوافذ الزرقاء الصغيرة لوحات فنية تُطل على البحر الأبيض المتوسط، فكل زاوية في هذه القرية تختزن ذاكرة المكان وروح القرون التي مرت عليها.
ورغم مرور الزمن، ما زالت سيدي بوسعيد تحافظ على مكانتها كأرقى ضواحي العاصمة وأجملها، فهي ليست مجرد موقع أثري أو وجهة سياحية، بل هي ذاكرة حية تجسد تلاقي الروح والفن والتاريخ في مشهد واحد، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في تناغم نادر، يجعلها عنوانًا للجمال المتجدد في تونس.
المصدر: الجزيرة نت