تُظهر الحفريات الحديثة والنقوش المكتشفة في مدائن صالح في المملكة العربية السعودية حجم الأهمية التاريخية للموقع الذي عرف باسم “الحِجْر” وارتبط اسمه بقصة قوم ثمود في القرآن الكريم، وتمكّن الموقع الذي يقع شمال غرب السعودية وتحديداً في محافظة العُلا من استقطاب اهتمام المؤرخين والباحثين منذ عقود، وذلك بفضل ما يحتويه من مدافن صخرية وآثار لحضارات متعاقبة، أبرزها مملكة الأنباط، ومملكة لحيان، ومملكة دادان، وقد تم إدراجه سنة 2008 ضمن قائمة مواقع التراث العالمي كأول موقع سعودي يحصل على هذا التصنيف من منظمة اليونسكو.
احتضن الموقع أكبر مستوطنة نبطية جنوبية بعد العاصمة البتراء، وبرزت أهميته بين القرن الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، حيث تحوّل إلى مركز تجاري نشط على طريق التجارة القديم الذي كان يربط جنوب الجزيرة العربية بالشام والعراق ومصر، واستمرت حضارته مزدهرة حتى الغزو الروماني عام 106م، وهو ما أدى إلى ضم مملكة الأنباط إلى الإمبراطورية الرومانية، لكنهم لم يستوطنوا الحِجْر، بل أعادوا توجيه الطرق التجارية نحو البحر الأحمر، ما أفقد المنطقة أهميتها تدريجياً.
تميّزت مدائن صالح بتنوّع المعالم المعمارية التي خلفها الأنباط، إذ تحتوي على 153 واجهة صخرية منحوتة في الجبال، منها قصر الفريد وقصر البنت وقصر الصانع، وتبرز فيها عناصر معمارية مثل الشرفات المدرّجة والتيجان النبطية والكتابات المنقوشة التي تحمل أسماء الملوك والنحاتين، كما عُثر على كتابات نبطية ولحيانية وثمودية وجنوبية عربية، ما يعكس تداخل الحضارات وتعدد الثقافات التي مرت بالمكان.
شهدت المنطقة قبل الأنباط نشوء ممالك محلية، منها مملكة دادان التي تعود للقرن الخامس قبل الميلاد وكانت خاضعة للمعينيين القادمين من اليمن، ثم سيطر عليها اللحيانيون الذين امتد نفوذهم من شمال يثرب إلى خليج العقبة، وقد خلفوا نقوشاً وتماثيل ومعبداً لا تزال آثاره موجودة في العُلا، وتشير الدلائل إلى أن الأنباط سيطروا على الحِجْر في سنة 65 قبل الميلاد وقاموا بعزل لحيان عن موانئها البحرية، مما أدى إلى ضعف نفوذها.
عقب سقوط الأنباط، أصبحت المنطقة جزءاً من المقاطعة العربية تحت الحكم الروماني، وعُثر على نقش يعود إلى القرن الثاني الميلادي يؤكد وجود الفيلق الروماني في الموقع، وفي العهد النبوي مر النبي محمد بالحِجْر أثناء غزوة تبوك سنة 9 هـ، ونهى عن دخول منازل المعذَّبين إلا للمتأملين الباكين، وكان لهذا الموقف أثر في رؤية المسلمين للمكان كموقع للعبرة لا للاستيطان.
استُخدمت مدائن صالح كمحطة في سكة حديد الحجاز التي بُنيت بين 1901 و1908، والتي ربطت دمشق بالمدينة المنورة، ثم توقفت بعد الثورة العربية الكبرى، وتم ترميم المحطة لاحقاً لتضم مرافق متعددة مثل الورش والمخازن ومساكن للعاملين، وقد أُنشئ عام 1972 برنامج لتوطين البدو في مناطق قريبة بعيداً عن الموقع الأثري للحفاظ عليه، وتم دعمهم بآبار ومزارع جديدة.
تُظهر التحليلات المعمارية أن الأنباط اعتمدوا على نحت الواجهات من الأعلى إلى الأسفل، واستخدموا أدوات مثل الإزميل والمعول، واستغرق تنفيذ المدفن الواحد أكثر من سنة، ويتضمن التصميم واجهة مزخرفة وحجرة دفن غالباً ما تكون بسيطة مقارنة بالواجهة، وتدل جودة النحت على الوضع الاجتماعي لصاحب المدفن. كما وُجدت نقوش تتضمن شروط دفن وتحذيرات لمن ينتهك حرمة المدفن.
اليوم، تعتبر مدائن صالح نموذجاً فريداً في العمارة الصخرية النبطية، ومعلماً تراثياً يعكس عمق التاريخ العربي قبل الإسلام، وتواصل السعودية جهودها لإحياء المكان ضمن خطط رؤية 2030 لجذب السياحة وتعزيز الهوية الوطنية.
المصدر: ويكيبيديا