تبدأ الملوخية حكايتها من عمق التاريخ المصري حين كانت تُعرف باسم «خية» وتُزرع على ضفاف النيل، فظن المصريون القدماء أنها نبات سام وتجنبوا لمسها أو تناولها، حتى جاء الهكسوس إلى مصر وفرضوا على المصريين أكل هذا النبات إذلالًا لهم، وكانوا يقولون «ملو خية» أي كلوا الخية، فاستجاب المصريون على مضض، لكن المفاجأة أن النبات لم يكن سامًا بل لذيذ المذاق، ومن هنا بدأت علاقة المصريين بأكلة تحولت من رمز للإهانة إلى واحدة من أهم أطباق المائدة المصرية.
أحب المصريون الملوخية لأنها تمثل نكهة الوطن، فلا تخلو منها مائدة في بيت صغير أو قصر كبير، وتُطهى دائمًا بمزيج من الطقوس والعادات التي لا تشبه غيرها، إذ لا تكتمل طبخة الملوخية إلا بـ«الطشة» التي تصدر صوتًا مميزًا لحظة صب الثوم المحمّر على الوعاء، وتليها «الشهقة» التي يعتقد المصريون أنها السر في نجاح الطبخة، حتى صارت تلك الحركة البسيطة جزءًا من التراث الشعبي الذي توارثته الأجيال كرمز للطابع المصري الأصيل في المطبخ.
تروي كتب التاريخ أن الملوخية عرفت مكانتها الحقيقية في عهد الدولة الفاطمية، حينما قيل إن الحاكم بأمر الله كان يعلم فوائدها الصحية فحرّمها على الناس وادعى أنها سامة ليستأثر بها لنفسه، بينما تروي رواية أخرى أن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي أُصيب بآلام في المعدة، فنصحه الأطباء بتناول الملوخية حتى شُفي تمامًا، فقرر أن يجعلها أكلة الملوك وأطلق عليها اسم «ملوكية» قبل أن تتحول لغويًا إلى «ملوخية»، ومنذ ذلك الحين ارتبطت الوجبة بالمكانة الرفيعة وظلت رمزًا للثراء والاحتفاء.
تحولت الملوخية بمرور الزمن إلى أكلة تجمع العائلة المصرية حول المائدة، فهي تُطهى في رمضان والأعياد والمناسبات، وتُقدم مع الأرز والدجاج أو الأرانب، ويُعد تناولها عادةً متوارثة لا يمكن الاستغناء عنها، لأن المصريين يرون فيها مزيجًا من الدفء والذكريات، وتبقى لحظة «الشهقة» في المطبخ علامة على أن هناك طبقًا من الملوخية يُطهى في مكان قريب.
لم تتوقف رحلة الملوخية عند حدود المطبخ التقليدي، بل واصل المصريون تطويرها وأضافوا إليها لمسات جديدة، فأصبحت تُطهى اليوم بالجمبري أو لحم الأرانب أو حتى بمرقة البط، كما انتقلت إلى مطابخ عربية عديدة احتفظت باسمها المصري نفسه، وهو ما يؤكد أن الملوخية تجاوزت كونها مجرد نبات لتصبح رمزًا ثقافيًا يعكس براعة المصريين في تحويل أبسط المكونات إلى وجبة تروي تاريخهم الطويل.
تبقى الملوخية شاهدًا على عبقرية المطبخ المصري وقدرته على الجمع بين الحكاية والطعم، فهي طبق يختصر قرونًا من التحولات التي بدأت بالاحتلال وانتهت بالاحتفال، وتظل كل «طشة» في بيت مصري صدى لذاكرة جماعية تعيد الحياة إلى نكهة لا تشيخ ولا تغيب عن موائد المصريين مهما تغيّرت الأزمان.
المصدر: اليوم السابع