يمثل المقام العراقي أحد أبرز مظاهر التراث الموسيقي في العراق، ويشكّل امتدادًا فنيًا لتاريخ طويل من الممارسات الصوتية المرتبطة بالبيئة الاجتماعية والدينية والثقافية، ويعتمد أداؤه على نظام موسيقي دقيق يدمج الشعر والموسيقى في قالب تعبيري فريد، ويُغنى إما بالفصحى أو باللهجة العراقية، مع مرافقة فرقة موسيقية تُعرف بـ”الجالغي البغدادي” التي تضم آلات تقليدية مثل الجوزة والسنطور والرق.
ارتبط المقام العراقي تاريخيًا بالعصور العباسية، وتفاعل مع مختلف التأثيرات الموسيقية التي مرّت على المنطقة، وساهم هذا التراكم في تشكيل طابع فني متنوع يعكس المزاج العراقي ويترجم مشاعر المجتمع في مراحل مختلفة من تاريخه، ويُعد هذا الفن مصدرًا للتعبير الجماعي والفردي، خاصة في المناسبات الدينية والمجتمعية التي تتطلب الحضور الصوتي والروحي للمقام، كما احتفظ بمكانته بين الأوساط الشعبية والنخبوية معًا.
أدرجت منظمة اليونسكو المقام العراقي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية في عام 2008، ويأتي هذا التصنيف اعترافًا بأهميته الفنية ومكانته في حفظ الذاكرة الثقافية لشعب العراق، ويضم المقام مجموعة من الوحدات الموسيقية والمقامات المتعددة مثل البيات والرست والحسيني والنهاوند، ولكل مقام خصائص لحنية وتعبيرية ترتبط بالموضوع الذي يتناوله أو بالمناسبة التي يُقدَّم فيها.
يشكل الأداء الحي عنصرًا أساسيًا في المقام العراقي، ويتيح الارتجال للقارئ إضفاء بعد شخصي على الأداء، كما يُسهم هذا التنوع في تقوية الصلة بين المؤدي والجمهور، وتُؤدى المقامات في الجلسات الفنية والمقاهي والمناسبات العامة، حيث يجتمع الجمهور للاستماع والتفاعل مع النصوص المغناة التي تحمل في طياتها مشاعر الحزن أو الفخر أو التأمل، ويبدأ المقام عادة بـ”التحرير” وهي مقدمة موسيقية قصيرة تُمهّد للمقام وتحدد المزاج العام.
يحظى القارئ في فن المقام بمكانة مركزية، فهو المسؤول عن التفسير الصوتي للمقامات وتقديم القصائد بطريقة تحافظ على وزنها ومعناها، وتدعمه فرقة الجالغي بأداء دقيق يوازن بين الإيقاع والتنغيم، كما تُستخدم القصائد الفصحى أو العامية للتعبير عن تجارب وجدانية أو فلسفية، وقد ساهم هذا التنوع في اجتذاب مختلف فئات الجمهور وتعزيز الألفة مع هذا الفن.
يتطلب الحفاظ على المقام العراقي استراتيجيات تعليمية تركز على التوثيق والممارسة الحية، ويُشكّل النقل الشفهي إحدى الركائز التي اعتمد عليها الفنانون في نقل هذا الإرث عبر الأجيال، مما يجعل وجود برامج تدريبية ومراكز متخصصة أمرًا ضروريًا، كما أن تشجيع الشباب على تعلم المقام وممارسته يعزز من استمراريته، ويحميه من الانحسار وسط الضغوط التجارية التي تتعرض لها الموسيقى التراثية.
يؤكد استمرار المقام العراقي حضور الهوية الوطنية في المشهد الثقافي، ويعزز شعور الانتماء لدى المجتمع، خاصة في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية التي مرت بها البلاد، ويُعد هذا الفن شاهدًا حيًا على قدرة العراقيين على التمسك بموروثهم الحضاري وتقديمه للعالم بوصفه تعبيرًا صادقًا عن تاريخ طويل من الإبداع والتمسك بالأصالة.