بات طبق “المسكوف” العراقي رمزاً ثقافياً متناقلاً عبر آلاف السنين، إذ تشير البحوث التاريخية إلى أن السومريين والبابليين كانوا يتناولونه قديماً، على ضفاف نهري دجلة والفرات بوفرة من الثروة السمكية، كما أصبح هذا الطبق اليوم جزءاً لا يتجزأ من أي خطة لزيارة العراق، وشاع صيته عالمياً عبر منصات التواصل الاجتماعي.
يعرف هذا النوع من السمك المشوي، الذي يعد بطريقة خاصة على نار حطب هادئة ويقدم مع الرز، بأنه من أشهر الأكلات على المائدة العراقية، حتى أنه تجاوز كونه مجرد طعام ليصبح واجهة للزوار والسائحين من خارج البلاد.
شهد الطعم الأصلي لطبق “المسكوف” تغيراً كبيراً لم يعتد عليه المتذوقون، نتيجة عوامل طرأت على البيئة المائية للأنهار، ومن أبرزها تأثيرات التغير المناخي وتزايد تلوث المياه، بالإضافة إلى سوء إدارة ملف الموارد المائية، والسياسات المجحفة بحق حصة العراق المائية القادمة من دول المنبع، وهي تركيا وإيران.
تسببت هذه العوامل في اختفاء أنواع جيدة من الأسماك، التي كانت تستخدم سابقاً في تحضير “المسكوف”، مما أثر بشكل ملحوظ في مذاق ما تبقى من أسماك الأنهار، أجبر هذا التغير أصحاب المطاعم على الاعتماد على أسماك الأحواض، التي يتفق الجميع على أنها تفتقر إلى النكهة المميزة للأسماك النهرية الحرة.
تتطلب طريقة تحضير “المسكوف” التقليدية سمكة طازجة تشق من جهة الظهر على طولها حتى الرأس، بعد ذلك تنظف وتغسل جيداً وترش عليها كمية من الملح، ثم تجهّز للشواء على أوتاد خشبية، وتوقد النار من خشب الصفصاف على شكل دائري لتحيط بالسمكة من كل الجوانب.
تقدم إلى جانب السمكة المشوية مجموعة من الأطباق، كالسلطات المتنوعة والمخللات والبصل الأخضر وخبز التنور، ومن التقليدي بعد الانتهاء من الوجبة تناول الشاي العراقي الأسود بالهيل.
يظل “المسكوف” من الأكلات المفضلة لدى العراقيين، ويتميز سكان المدن الجنوبية بطريقة تحضير خاصة له، لأن صيد الأسماك كان مهنة أجدادهم قديماً.
وأثر بناء السدود في تركيا وإيران والتغير المناخي وقلة المتساقطات، في نوعية المياه التي لم تعد ملائمة لتوافر الأسماك المرغوبة، مما أدى إلى اختفائها وحلول أسماك أخرى محلها، وهي أسماك ذات مقاومة عالية للملوحة لكنها تتصف بطعم غير مرغوب، ما قلل الإقبال عليها بشكل كبير.
طالت التغيرات أيضاً طريقة تحضير الأكلة نفسها، حيث تغيرت طريقة الشواء من الخشب إلى الفحم، وزادت سرعة التحضير مما أثر في النكهة المميزة لـ “المسكوف”، تؤكد الدراسات أن ارتفاع درجات الحرارة عالمياً يؤثر بصورة كبيرة في تنوع الأسماك في الأنهر.
ترخي عوامل التطرف المناخي وسوء التعامل البشري مع بيئة الأنهار بظلالها السلبية على أكلة “المسكوف”، وتهدد بفقدان الهوية الثقافية لهذا الطبق الوطني، ما يضع الحكومة العراقية والمنظمات المعنية بالثروة السمكية أمام مسؤولية إنقاذ ما تبقى من هذه الثروة المائية المهمة.
المصدر: إندبندنت عربية