تجسد القدود الحلبية واحداً من أهم ألوان الغناء التقليدي في سورية، حيث ارتبطت على مدى قرون بمدينة حلب التي كانت ولا تزال مركزاً فنياً بارزاً في المنطقة، وتؤدى هذه الألوان الموسيقية في مناسبات متعددة تشمل الاحتفالات الاجتماعية واللقاءات الترفيهية والمناسبات الدينية، مع تغير النصوص الغنائية تبعاً لطبيعة المناسبة، ما جعلها فناً مرناً يجمع بين الطابع الروحي والبعد الاجتماعي ويعكس التنوع الثقافي العميق في المجتمع الحلبي.
تتميز القدود بكونها فناً قائماً على الألحان الموروثة التي يضاف إليها نصوص شعرية جديدة، وغالباً ما تتنوع النصوص بين الديني والعاطفي والوجداني، وهو ما يمنحها قدرة على التعبير عن مشاعر الناس المختلفة، كما أنها تتيح للمستمع فرصة عيش حالة طربية خاصة تجعلها من أكثر الفنون قدرة على إثارة الانفعال الوجداني، ومن هنا ارتبطت في الذاكرة الشعبية بمفهوم الطرب الذي يشكل أحد أبرز سمات الغناء الحلبي.
اعتمدت عملية تناقل القدود عبر الأجيال على التقليد الشفهي والتعلم المباشر من الأساتذة والرواد، حيث كان كبار المنشدين والمطربين في حلب بمثابة مدارس قائمة بحد ذاتها، ينقلون خبراتهم وأساليبهم إلى تلاميذهم الذين بدورهم حافظوا على هذا الفن، ومن خلال هذا النهج استمر حضور القدود رغم تغير الظروف الاجتماعية والسياسية، وبقيت حية في وجدان السوريين داخل الوطن وخارجه، كما أسهمت تسجيلات الإذاعة السورية وانتشار وسائل الإعلام في تعزيز مكانتها ونقلها إلى أوسع جمهور.
ساهمت القدود في جعل مدينة حلب مرجعاً موسيقياً على مستوى العالم العربي، إذ كان لها دور بارز في إبراز الهوية الفنية للمدينة التي ارتبطت دوماً بالموسيقى والإنشاد والطرب، كما ساعدت على تعزيز التماسك الاجتماعي باعتبارها جزءاً من الطقوس الجماعية التي تجمع الأفراد في المناسبات، لتتحول بذلك من فن غنائي إلى عنصر ثقافي جامع يرسخ قيم الانتماء والهوية المشتركة.
أدرجت منظمة اليونسكو القدود الحلبية عام 2021 في قائمة التراث الثقافي غير المادي، وهو اعتراف عالمي بقيمتها الفنية وأهميتها في حفظ التنوع الثقافي، ويأتي هذا الإدراج في وقت يحتاج فيه هذا التراث إلى مزيد من الدعم والحماية في ظل ما تواجهه سورية من تحديات، إذ يفتح المجال أمام مبادرات توثيق وتعليم جديدة تسهم في نقل هذا الفن إلى الأجيال القادمة وضمان استمراريته.
يؤكد هذا الاعتراف أن القدود الحلبية ليست مجرد غناء محلي، بل هي جزء من التراث الإنساني الذي يعكس تلاقح الثقافات وتنوع التجارب الفنية، كما يعزز صورة سورية كبلد غني بإرثه الموسيقي والفني، ويدعو إلى الاستثمار في هذا الموروث لتعريف العالم بجمالياته والمحافظة على حضوره كرمز من رموز الثقافة العربية الأصيلة.
المصدر: اليونسكو