حافظ الفلسطينيون على أكلاتهم الشعبية رغم تغيّر الأزمنة، فبقيت على موائدهم تحمل نكهة الأرض وتاريخ المدن العريقة، إذ تتناقل الأجيال وصفات الطهي كما تتناقل الأغاني والأمثال، وتُعد القدرة الخليلية أبرز ما يجسّد هذا التراث الذي واجه محاولات الطمس والسرقة من الاحتلال، فبقيت رمزًا للصمود وكرم الضيافة وذاكرة المطبخ الفلسطيني الأصيل.
تُطهى القدرة الخليلية داخل قدر نحاسي سميك تشتعل تحته النار، ويغمره عبق السمن البلدي، بينما تمتزج حبات الأرز مع لحم الضأن أو الدجاج في مشهد يجمع الحرفية بالمحبة، ويُقدَّم الطبق في المناسبات والعزائم ليعبّر عن كرم أهل الخليل الذين اشتهروا بحسن استقبال ضيوفهم وتقديرهم للطعام المتقن.
انتقلت شهرة القدرة من الخليل إلى سائر المدن الفلسطينية، فباتت حاضرة في القدس وغزة ونابلس، واحتفظ كل إقليم بلمسته الخاصة في إعدادها، إذ أضاف البعض البهارات والحمص أو أعدّها في الفخار بدل النحاس، لكن الجميع أجمع على أصالتها الخليلية التي لم تفقد روحها رغم اختلاف طرق الطهو، لتبقى طبقًا يعبّر عن وحدة الذوق الفلسطيني وتنوّع مطبخه.

يبدأ إعداد الطبق بتحضير اللحم المملح والمبهّر، ويُشوّح مع السمن واللية حتى يكتسب لونًا بنيًا يعكس نكهته الغنية، ثم يُضاف إليه الثوم والبهارات قبل أن يُغمر بالماء المغلي، ليُطهى على نار هادئة حتى ينضج نصف نضج، بعدها يُضاف الحمص ليُكمل نضجه، وتُجهز الفخارة التي تُعد القلب النابض للقدرة، إذ تُنقع في الماء وتُدهن بزيت الزيتون قبل إدخالها الفرن حتى تكتسب صلابتها المميزة.
وعند وضع الأرز داخل الفخارة يُخلط برفق مع الثوم والحمص، وتُسكب عليه مرقة اللحم بنسبة دقيقة، ثم تُوزع قطع اللحم فوقه ويُضاف مزيد من السمن البلدي ليمنحه لمعانًا ورائحة مميزة، وتُغلق الفخارة بورق القصدير بإحكام لتُطهى داخل الفرن بحرارة معتدلة لمدة ساعة تقريبًا، مع تحريكها في منتصف الوقت لضمان تجانس المكونات.
تخرج القدرة من الفرن بلونها الذهبي البني، وتُقدّم مباشرة في فخارتها مع اللبن أو السلطة، وتبقى رائحتها تعبّر عن دفء البيوت الفلسطينية التي ترى في هذا الطبق أكثر من مجرد وجبة، فهو حكاية متوارثة تروي عراقة المدينة وصلابة أهلها، ويستعيد عبرها الفلسطينيون ملامح تراثهم الذي حاول الاحتلال طمسه لكنه ما زال حاضرًا في الطين والنار والنكهة.
ويؤكد خبراء التغذية أن القدرة الخليلية تجمع بين التوازن الغذائي والطاقة العالية، إذ تحتوي على البروتينات من اللحم والحمص، والكربوهيدرات من الأرز، والدهون الطبيعية من السمن البلدي، ما يجعلها وجبة مكتملة القيمة، تُظهر كيف استطاع الفلسطينيون تحويل مواردهم البسيطة إلى مطبخ غني بالنكهة والتاريخ، وتركوا للأجيال وصفة تحفظ المذاق والهوية في آن واحد.
المصدر: ويكيبيديا