تشكل القبور الميغاليتية في قرية منجز بمحافظة عكار في شمال لبنان واحدة من أبرز الشواهد التاريخية التي تعكس عمق الجذور الحضارية للمنطقة، حيث تعود هذه القبور الحجرية الضخمة إلى نهاية العصر النحاسي أو بداية العصر البرونزي في الألفية الرابعة قبل الميلاد، ما يجعلها من أقدم الشواهد الجنائزية التي تركها الإنسان على أرض لبنان.
وتتميز هذه القبور بأسلوبها الميغاليتـي القائم على استخدام الأحجار الكبيرة في البناء، وهو أسلوب يوضح طبيعة المعتقدات والطقوس المرتبطة بالموت والدفن في تلك الحقبة المبكرة من التاريخ.
وتُظهر هذه القبور طابعاً فريداً يربطها بالأنماط المعمارية المنتشرة في مناطق أخرى من العالم القديم التي شهدت انتشار ثقافة الأحجار الضخمة، إذ تشير الدراسات إلى أن هذه المقابر ربما كانت جزءاً من تقاليد جنائزية جماعية، تعكس دور الجماعة وأهمية الطقوس الدينية في حياة سكان المنطقة آنذاك، كما يُعتقد أن لهذه القبور بعداً رمزياً يتعلق بتخليد ذكرى الأجداد وربط الأجيال المتعاقبة بجذورها، وهو ما يعكس قوة البعد الاجتماعي والديني للمكان.
وتقع هذه القبور في قرية منجز التي تحتضن معالم طبيعية وتاريخية متعددة، حيث يشكل الموقع جزءاً من المشهد الثقافي الأوسع للمنطقة، ويمنحها مكانة خاصة ضمن التراث اللبناني، وقد ساهمت هذه الخصوصية في إدراج القبور الميغاليتية ضمن القائمة الإرشادية المؤقتة لليونسكو تحت بند “المعالم التاريخية والمواقع الطبيعية لقرية منجز”، الأمر الذي يعكس قيمتها العالمية وضرورة حمايتها وصونها باعتبارها تراثاً إنسانياً يخص البشرية جمعاء.
ويولي الباحثون اهتماماً متزايداً بالموقع، لما يحمله من أدلة أثرية مهمة يمكن أن تسهم في إعادة بناء صورة أوضح عن أنماط الحياة والعقائد السائدة في عصور ما قبل التاريخ في شرق المتوسط، حيث إن دراسة هذه القبور توفر معلومات حول أساليب البناء القديمة، وطبيعة المجتمعات الزراعية الأولى، وعلاقتها بالبيئة المحيطة، كما تساعد في فهم أوسع للتواصل الثقافي بين حضارات مختلفة اعتمدت البناء بالأحجار الضخمة في مناطق متباعدة جغرافياً.
كما يشكل الموقع عامل جذب للسياحة الثقافية في لبنان، إذ يمكن أن يسهم إدماجه في المسارات السياحية والأثرية في تعزيز التنمية المحلية، من خلال تعريف الزوار بتاريخ عكار العريق، وتسليط الضوء على دورها كمركز حضاري ضارب في القدم، وهو ما يدفع السلطات المحلية والجهات المعنية بالتراث إلى التفكير في سبل حمايته وتأهيله ليستمر شاهداً على ماضي المنطقة.
ويعكس الاهتمام العالمي بهذه القبور الأهمية المتزايدة للحفاظ على التراث الثقافي، خاصة في ظل التحديات التي تواجه المواقع الأثرية في المنطقة، سواء بسبب العوامل الطبيعية أو التوسع العمراني أو الإهمال، ما يستدعي تضافر الجهود المحلية والدولية لحماية هذه الشواهد التاريخية، وضمان استمرارها كمصدر للمعرفة والتأمل في تاريخ الإنسان وتطور حضاراته عبر العصور.
المصدر: النهار