يُعدّ الجميد، الذي هو لبن الضأن أو الماعز المجفف والمملح، أيقونة المطبخ الأردني ورمزًا ثقافيًا متأصلاً يروي قصص البادية وعادات الضيافة، ولا يمكن فصل الجميد عن الهوية الغذائية للمملكة، فهو المكون الأساسي لـ”المنسف”، الطبق الوطني الأول الذي يعكس كرم الأردنيين ودفء ترحابهم.
يتجاوز دور الجميد كونه مادة غذائية؛ بل هو جزء حيوي من التراث الشعبي، يجسد مهارات الأجيال في حفظ الأطعمة وتخزينها بطرق تقليدية حافظت على بقائها عبر مئات السنين.
تبدأ حكاية الجميد بعملية تحويل اللبن الرائب إلى مادة صلبة قابلة للتخزين لفترات طويلة، وهي عملية دقيقة تتوارثها النساء في الأرياف والبوادي، ويُغلى اللبن أولاً ثم يُخض، ويُفصل “الزُبد” عن “المخيض” أو “الشنينة”، وبعد ذلك، يُصفّى المخيض ويُوضع في أكياس من قماش الشاش حتى يتخلص من الماء الزائد، ليتحول إلى “الجميد الرائب” أو “الجبجب”، وتُضاف كميات محددة من الملح كمادة حافظة، ثم يُشكّل يدويًا على هيئة كرات أو قطع بيضاوية قبل أن يُترك ليجف تحت أشعة الشمس المباشرة.
يتمتع الجميد بخصائص فريدة تمنحه هذه الأهمية الاستثنائية، فبفضل عملية التجفيف والتمليح، يكتسب قوامًا صلبًا يسمح له بالبقاء صالحًا للاستهلاك لشهور طويلة دون الحاجة للتبريد، وهو ما كان ضروريًا لحياة البدو الرحل، كما أن الجميد يُضفي نكهة حامضية مالحة مميزة، لا يمكن استبدالها بأي نوع من الألبان الأخرى عند إعداد طبق المنسف، فهو يمنح المرق لونه الأبيض المائل للصفرة وقوامه الكثيف المخملي.
إن التراث المرتبط بالجميد لا يقف عند طريقة صناعته فحسب، بل يمتد إلى طقوس استهلاكه، فقبل طهي المنسف، يجب نقع كرات الجميد الصلبة لساعات طويلة في الماء الدافئ، ثم فركها وتذويبها جيدًا، وهي عملية شاقة تُعرف بـ”فرك الجميد”، هذه الخطوة ضرورية للحصول على سائل الجميد الصافي الذي يُغلى مع اللحم البلدي والبهارات لإعداد مرق المنسف.
ومع التطور، ظهر الجميد السائل المُعبأ كبديل أسهل للاستخدام، ولكنه لم يحلّ محل الجميد الكروي التقليدي الذي ما زال يُفضله الكثيرون لجودته العالية وطعمه الأصيل الذي يحمل عبق الماضي، لقد أصبح الجميد الأردني رمزًا للضيافة في المناسبات الكبرى كالأعراس، ومناسبات العزاء، والتجمعات العائلية، ليظل رابطًا قويًا بين الأجيال، وممثلاً لتاريخ ثقافي غني يُستشعر مذاقه في كل حبة أرز مُغمّسة بمرق الجميد اللذيذ.
المصدر: رؤيا الإخبارية