تعد التكية المولوية قرب قلعة طرابلس شمال لبنان أحد أبرز المعالم العثمانية التي تركت بصمة واضحة في تاريخ المدينة، فقد شُيّدت عام 1619 ميلادية في العهد العثماني لتكون مركزًا للطريقة المولوية التي ارتبطت بفكر وتعاليم الشيخ جلال الدين الرومي، ما جعلها رمزًا للروحانية والتأمل الصوفي ومكانًا يجمع المريدين والباحثين عن السكينة الروحية في قلب المدينة.
تجسد التكية المولوية ملامح العمارة العثمانية بجمال تصاميمها وزخارفها التي تعكس الدقة والإبداع، حيث تميزت أقواسها وقبابها بالغنى الفني الذي يبرز مهارة البنائين في تلك الحقبة، وقد مثّلت على مر العصور مركزًا روحيًا للعبادة والذكر ومكانًا للتواصل الثقافي والاجتماعي، الأمر الذي جعلها محط اهتمام المؤرخين والمهتمين بالفن الإسلامي.
يدرج الموقع اليوم ضمن القائمة الإرشادية لمنظمة اليونسكو بوصفه جزءًا من مدينة طرابلس القديمة، وهو ما يعزز مكانته العالمية ويدعم إدراجه لاحقًا ضمن التراث العالمي، كما يجذب الموقع أعدادًا متزايدة من السياح والباحثين الذين يقصدونه للتعرف على أبعاده التاريخية والروحية، ما يمنحه دورًا أساسيًا في تنشيط السياحة الثقافية اللبنانية.
تكشف الدراسات الأثرية والمعمارية التي أجريت حول التكية عن تفاصيل دقيقة تخص أقواسها وغرفها المزخرفة التي ما زالت تحتفظ بنقوش عثمانية مبهرة، كما تبرز هذه البقايا أهمية التكية كمركز روحي مخصص للتعبد والذكر الصوفي، وهو ما يعكس دورها التاريخي في احتضان الحياة الروحية وتوفير فضاء خاص للمريدين.
يمثل هذا المعلم نقطة التقاء الثقافة الصوفية مع التراث المحلي، حيث امتزجت فيه التأثيرات العثمانية باللمسات الفنية اللبنانية، لتظهر الزخارف الداخلية تنوع الإرث الثقافي الذي ميّز طرابلس كمدينة متعددة الحضارات، وقد أسهم هذا التنوع في تعزيز مكانة التكية كرمز للتعايش والثراء الفني.
تواجه التكية اليوم تحديات بيئية تؤثر على هيكلها الحجري بسبب الرطوبة والعوامل المناخية، ما يجعلها بحاجة دائمة إلى خطط صيانة متخصصة وجهود متواصلة للحفاظ على مكوناتها الأصلية، وتعمل السلطات اللبنانية بالتعاون مع المؤسسات الدولية على حماية هذا المعلم من التدهور وضمان استمراره للأجيال المقبلة.
تسعى الدولة اللبنانية إلى تعزيز مكانة التكية سياحيًا من خلال تطوير المرافق المحيطة بها وتوفير بنية تحتية تستوعب الزوار، إذ يشكل الموقع رابطًا قويًا بين الماضي والحاضر بما يحمله من قيمة صوفية وروحية، ويمنح زواره تجربة استثنائية في استكشاف التراث الصوفي العثماني.
تبرز الاكتشافات الأثرية المرتبطة بالتكية تفاصيل عن الحياة الصوفية في العهد العثماني، حيث عُثر على أدوات طقوسية وزخارف متنوعة تعكس أسلوب حياة المريدين، كما تسهم هذه المعطيات في تعزيز الهوية الثقافية اللبنانية وإبراز دور طرابلس كمركز للتاريخ الديني والفني.
تستمر الأبحاث العلمية في دراسة التكية بعناية لحماية بنيتها والكشف عن مزيد من أسرارها، وسط توقعات بالكشف عن معطيات جديدة تثري المعرفة بالتصوف العثماني، ومع تواصل الجهود الدولية لحماية الموقع يبقى هذا المعلم شاهدًا على عبقرية الفن العثماني وروحانية الطريقة المولوية، ويظل كنزًا ثقافيًا خالدًا يعكس جزءًا أصيلًا من تاريخ طرابلس ولبنان.
المصدر: صحيفة الخليج