في قلب صحراء تيميمون المترامية الأطراف بالجزائر، يقف قصر الذراع شامخًا كأنه حارسٌ للزمان، يروي بصمته الطويلة قصة مكانٍ ظل بعيدًا عن الأعين، ومحصنًا بالغموض الذي يلف تاريخه منذ قرون.
شيّد القصر من الطين والحجارة المحلية، بأسلوب هندسي متقن يعكس عبقرية العمارة الصحراوية القديمة، حيث تندمج الجدران مع لون الرمال حتى يكاد الزائر يتيه في تفاصيله، كأن الطبيعة أرادت أن تخفيه لا أن تُظهره، ليبقى سرّه محفوظًا بين طيات الريح.
يقف القصر اليوم مهجورًا، صامتًا أمام الزمن، تصفعه العواصف الرملية نهارًا وتلفه البرودة القاسية ليلًا، لكنه رغم ذلك لا يزال صامدًا، يُقاوم اندثار الذاكرة في صحراءٍ لا تعرف الرحمة، يصفه سكان المنطقة بأنه “روحٌ تسكن الرمال”، إذ لا أحد يعرف متى بُني ولا من شيّده، ولا الغاية من تشييده في تلك البقعة النائية التي لا يمر بها سوى المسافرون الباحثون عن أثرٍ من الماضي.
ويؤكد بعض كبار السن أن القصر كان مأوى للتجار العابرين في طريق “الملح والذهب”، فيما يعتقد آخرون أنه كان حصنًا دفاعيًا يراقب خطوط القوافل عبر الصحراء الكبرى.
ورغم غياب الوثائق والنقوش التي تُحدد زمن بنائه بدقة، تُرجّح بعض الروايات أنه يعود إلى عصورٍ ما قبل الاستعمار الفرنسي، وربما إلى فتراتٍ أقدم من ذلك، حين كانت تيميمون مركزًا حيويًا لتجارة القوافل، وممرًا استراتيجيًا يربط شمال إفريقيا بعمق القارة، فالموقع الذي يحتله القصر لم يكن اعتباطيًا، بل مدروسًا بعناية، إذ يطل على ممرٍّ صحراوي كان يعج بالحياة ذات يوم، وحيث كانت القوافل تتوقف للتزوّد بالماء والمؤن قبل متابعة الطريق الطويل نحو النيجر ومالي.
وما يثير الدهشة في قصر الذراع أنه لا يزال يحتفظ بملامحه الأصلية رغم عوامل التعرية القاسية، فقد شُيّد بطريقة تجعل جدرانه تتنفس مع المناخ، فتحتفظ بالبرودة في النهار والدفء في الليل، وهي سمة معمارية نادرة في الأبنية الطينية القديمة.
كما تظهر بعض النقوش الباهتة على الجدران، يُعتقد أنها رموز تعود إلى قبائل زناتية قديمة أو طوارق رحّل مرّوا من هناك، ما يزيد الغموض حول هوية من سكنوا القصر أو مرّوا به عبر الزمن.
تيميمون، المدينة التي تضم القصر، لا تزال شاهدة على تمازج الثقافات الصحراوية، حيث تتقاطع فيها الروح الزناتية بالطابع الطوارقي والنكهة العربية في نسيجٍ حضاري فريد.
ويُعد قصر الذراع اليوم رمزًا لذاك التراث المنسي، ومعلَمًا أثريًا يستحق الاهتمام والترميم، قبل أن تبتلعه الرمال إلى الأبد، فبين جدرانه المتشققة تختبئ حكايات لم تُروَ بعد، عن بشرٍ رحلوا وبصماتٍ باقية تنطق بما لم يُكتب في كتب التاريخ.
قد يكون القصر مجرد أطلالٍ في نظر العابرين، لكنه بالنسبة لأبناء تيميمون، ذاكرةٌ حية ومفتاحٌ لقراءة تاريخٍ لم يكتمل، إذ يرون فيه امتدادًا لهويتهم وارتباطهم العميق بالصحراء التي صاغت أرواحهم كما صاغت جدرانه.
وبينما تمضي الأيام ويُمعن الإهمال في طمس معالمه، يظل قصر الذراع يروي صمته بلغةٍ لا يفهمها إلا من يصدق أن للأمكنة أرواحًا لا تموت، وأن الماضي مهما تلاشى، يبقى يهمس في رمال الجنوب الجزائري بأسرارٍ لا يُفصح عنها إلا لمن يُصغي جيدًا.
المصدر: ويكيبيديا