يعد دير الأنبا بولا واحدا من أقدم الأديرة القبطية في مصر، إذ يقع في عمق الصحراء الشرقية قرب جبال البحر الأحمر، حيث ارتبط منذ نشأته بتاريخ الرهبنة المصرية التي شكّلت أحد أهم معالم التراث الديني والروحي في البلاد، وقد تأسس الدير في أواخر القرن الرابع الميلادي وبداية القرن الخامس ليصبح مقصدا للرهبان والزائرين الذين وجدوا في عزلته مكانا للتعبد والتأمل.
يحمل الدير اسم الأنبا بولا الذي يُعرف تاريخيا بلقب أول السواح، ويعود إليه الفضل في وضع أسس الحياة النسكية المنعزلة التي تميزت بالابتعاد عن مظاهر الحياة اليومية، حيث جذب هذا النموذج العديد من الرهبان الذين وجدوا في الصحراء الشرقية بيئة مثالية لممارسة الطقوس الروحية بعيدا عن صخب المدن، ومع مرور الزمن تطور الدير ليصبح مركزا رهبانيا متكاملا يحوي كنائس ومساكن للرهبان ومرافق تساعد على استمرار الحياة داخل أسواره.
شهد دير الأنبا بولا مراحل تاريخية متعددة عكست التحولات التي مرت بها الكنيسة القبطية، فقد تعرض في فترات مختلفة لعوامل طبيعية وهجمات أثرت على بنيانه، لكنه ظل يحافظ على مكانته بفضل الجهود المستمرة لإعادة ترميمه وتجديده، وهو ما جعله من أهم الأديرة التي تمثل ذاكرة حية للرهبنة المصرية منذ بداياتها وحتى العصر الحديث، كما أصبح مقصدا للزوار الذين يأتون من مختلف المناطق للتبرك والتعرف على تاريخه.
يحظى الدير بأهمية روحية كبيرة داخل المجتمع القبطي، حيث تقام فيه صلوات ومناسبات دينية تحافظ على استمرارية التقاليد الكنسية القديمة، كما يسهم وجود الرهبان المقيمين فيه في إحياء روح العزلة والنسك التي تميز بها الأنبا بولا، الأمر الذي يجعل الدير ليس مجرد بناء تاريخي بل كيانا حيّا يواصل أداء دوره الديني والثقافي.
اعترفت منظمة اليونسكو بالقيمة التراثية لدير الأنبا بولا، إذ أدرجته ضمن العناصر المكوّنة للقائمة الإرشادية المؤقتة التي تشمل أديرة الصحراء العربية ووادي النطرون، وذلك تقديرا لدوره في حفظ التراث الروحي والإنساني، ويأتي هذا الإدراج ليعكس المكانة التاريخية والدينية التي يحظى بها الدير، وليؤكد أهمية صونه والمحافظة عليه كجزء من الهوية الثقافية لمصر.
يمثل الدير اليوم وجهة بارزة تجمع بين الطابع الديني والأثري، حيث يتردد عليه الباحثون والمهتمون بتاريخ المسيحية الشرقية، كما يستقطب الزائرين الذين يرغبون في التعرف على معالم الرهبنة الأولى في بيئة صحراوية فريدة، وهو ما يجعله شاهدا على مسيرة امتدت لأكثر من ستة عشر قرنا حافظ خلالها على دوره كمركز للتعبد والتأمل.
المصدر: اليوم السابع