الأثنين 1447/05/12هـ (03-11-2025م)
الرئيسية » جولة في التراث » سوريا » مرئي » المعالم التاريخية » خامس مسجد إسلامي.. الجامع الأعلى بحماة صرح تراثي يحكي تاريخ قرون متعاقبة

خامس مسجد إسلامي.. الجامع الأعلى بحماة صرح تراثي يحكي تاريخ قرون متعاقبة

يُعتبر الجامع الأعلى الكبير في حماة بسوريا، أحد أقدم وأهم المساجد في العالم الإسلامي، ويُصنف كخامس مسجد بني في الإسلام بعد مساجد قباء والأقصى والحرمين الشريفين، فصار رمزًا دينيًا وحضاريًا بالغ الأهمية، يقع هذا الصرح على منطقة مرتفعة في حماة القديمة، ولذلك أُطلق عليه اسم “الأعلى”، لتمييزه عن جامع النوري القريب من نهر العاصي.

يرجع تاريخ موقع الجامع إلى ما قبل فجر الإسلام بقرون عديدة، حيث تشير الدلائل الأثرية إلى أنه كان في الأصل معبدًا وثنيًا للإله جوبيتر في العهد الروماني، ويحتمل أن يكون أقدم من ذلك، وتحول المعبد إلى كنيسة بيزنطية في عهد الإمبراطور قسطنطين حوالي عام 350 ميلادي، وظلت بعض أجزائه كالأعمدة تحمل بصمات الفن البيزنطي.

شهد الموقع نقطة تحول كبرى مع الفتح الإسلامي لمدينة حماة في عام 17 هجري (حوالي 638 ميلادي)، إذ حوّل الصحابي أبو عبيدة بن الجراح الكنيسة إلى جامع، ليصبح بذلك من أوائل المساجد التي أُسست في بلاد الشام.

خضع الجامع الكبير للعديد من أعمال التوسعة والتجديد عبر العصور الإسلامية المتعاقبة، خاصة في العهد العباسي ثم الأيوبي، حيث كانت تتبعه دار للملك المظفر ومدرسة لزوجته السيدة خاتون.

أُضيفت العديد من العناصر المعمارية الهامة في فترة حكم الأتابكة خلال القرن الثاني عشر الميلادي، مما أكسبه طابعًا يمزج بين الأسلوبين الأموي والأتابكي، فصار تحفة معمارية عاكسة لتطور الفنون.

ولم يسلم الجامع من كوارث طبيعية، فقد تعرض للتدمير الجزئي إثر زلزال عام 1157 ميلادي، كما تعرض لحريق في هجوم بيزنطي عام 968 ميلادي، لكنه كان يُعاد بناؤه وترميمه باستمرار بفضل اهتمام الحكام والأهالي.

يحتل الجامع موقعًا استراتيجيًا متميزًا في قلب المدينة، قرب القلعة الشهيرة، مما يعكس الأهمية التي أولاها المسلمون الأوائل لهذا المركز الديني والاجتماعي، وأسهم هذا الموقع المركزي في جعل الجامع محورًا للحياة الاجتماعية والثقافية في حماة، حيث كان مركزًا لحلقات العلم والمجالس الأدبية، ومرجعًا لأهل المدينة.

يتجلى ثراء تاريخ الجامع في تصميمه المعماري الفريد، الذي يمتد على مساحة واسعة تبلغ حوالي 1450 مترًا مربعًا، وكان المصلون يصعدون إليه عبر سبع درجات لكونه يقع على أرض مرتفعة.

يتألف تصميم الجامع من فناء (صحن) كبير مرصوف بحجارة بيضاء وسوداء تشكل أنماطًا هندسية، تتوسطه نافورة مربعة وإلى جانبها تنتصب “قبة الخزنة”.

تُعدّ قبة الخزنة المثمنة الشكل من المعالم الفريدة، حيث ترتكز على ثمانية أعمدة كلاسيكية، ويُقال إنها بُنيت بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب لحفظ أموال المسلمين، ويحيط بالصحن رواق مقبب، ويجاوره من الجهة الجنوبية حرم الصلاة الرئيسي، الذي يضم المنبر الخشبي البديع.

يُعتبر المنبر الخشبي المزخرف آية في الجمال، فقد صنعه زين الدين كتبغا سنة 701 هجري (1301 ميلادي)، ويتميز بدقة حفره ونقوشه وتطعيمه بالصدف الناصع المجزأ إلى أشكال هندسية دقيقة. يضم الجامع أيضًا ضريح الملكين الأيوبيين المنصور وابنه المظفر، مع تابوتيهما الخشبيين المزخرفين، مما يؤكد على مكانة المسجد الرفيعة في العهد الأيوبي.

يحتوي الجامع على مئذنتين مختلفتين في التصميم، فالمئذنة الجنوبية مربعة الشكل وتُعدّ من أقدم العناصر المعمارية، وتحوي كتابات عربية بالخط الكوفي العريق.

أما المئذنة الشمالية فهي مثمنة الشكل، وبُنيت في العهد المملوكي عام 1427 ميلادية، مما يعكس استمرارية التطور المعماري الإسلامي في الجامع.

شهد الجامع الكبير مرحلة مأساوية في تاريخه الحديث، إذ تهدم بالكامل في عام 1982 ميلادية خلال أحداث حماة، مشكلًا خسارة فادحة للتراث الإسلامي، واستجابت الإرادة الشعبية والحكومية لهذه المأساة، حيث تم اتخاذ قرار جريء بإعادة بناء الجامع كما كان، وانتهت أعمال إعادة البناء في عام 1991 ميلادية بعد جهود مضنية ودراسات معمارية وتاريخية مكثفة.

يُعتبر الجامع الكبير في حماة اليوم رمزًا للصمود والاستمرارية الحضارية، ويستمر في أداء دوره الروحي والثقافي، رغم كل التحديات التي واجهها على مر القرون.

ويظل هذا الصرح العظيم شاهدًا حيًا على عظمة الحضارة الإسلامية وقدرتها على الإبداع والتطور، ويجذب الزوار والباحثين لاستكشاف كنوزه التاريخية والفنية.

المصدر: حماة بلس

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار