يُعد جامع الخلفاء من أقدم المعالم الدينية والتاريخية في بغداد، حيث شُيد بأمر من الخليفة العباسي المكتفي بالله بين عامي 289 و295 هـ، وكان يعرف في بداياته باسم جامع القصر، ثم تحول اسمه إلى جامع الخليفة، واستقر أخيرًا باسم جامع الخلفاء، ويقع الجامع في قلب العاصمة بغداد ضمن جانب الرصافة وتحديدًا بمحلة سوق الغزل قرب الشورجة، ويُشكل بمئذنته الباقية أحد أبرز آثار الدولة العباسية المعمارية.
تميّز هذا الجامع بمئذنته التاريخية المبنية من الآجر، والتي يبلغ ارتفاعها الحالي نحو 26 مترًا، وكانت قبل ذلك أعلى منارة تُشرف على مدينة بغداد بارتفاع تجاوز 35 مترًا، وقد صُمّمت المئذنة وفق طراز معماري يُشبه مآذن بسطام في إيران وذي الكفل، وهي مزينة بنقوش آجُرية بسيطة توزعت بدقة لخلق تباينات ضوئية تنعكس على السطح الدائري.
تعرض الجامع لعدة موجات من التدمير، حيث تهدم وأُحرق في هجوم المغول على بغداد، بينما بقيت المئذنة صامدة، كما سقطت وأُعيد بناؤها أكثر من مرة، أبرزها ما حدث عام 670 هـ، عندما أمر علاء الدين الجويني بإعادة البناء بعد سقوطها، ثم جرى ترميمها مجددًا عام 678 هـ، كما ورد في كتب المؤرخين مثل ابن الفوطي وابن الأثير.
زار الجامع عدد من الرحالة على مدار قرون، منهم ابن بطوطة عام 727 هـ، والرحالة الألماني نيبور في القرن الثامن عشر، واللذان أكدا أن جامع الخلفاء كان مركزًا دينيًا وحضاريًا يضم بقايا سور قديم ومداخل مزينة بالزخارف والخط العربي، وأشار نيبور إلى أن السوق المحيطة بالجامع شكلت جزءًا من البيئة التجارية والاجتماعية لبغداد.
شهد الجامع تطورًا كبيرًا في القرن العشرين عندما كُلّف المعماري محمد صالح مكية بإعادة تصميمه عام 1961 بأسلوب مستوحى من العمارة العباسية، وقد حافظ مكية على المئذنة القديمة، ودمجها ضمن البناء الحديث الذي انتهى العمل به عام 1964، وافتُتح الجامع رسميًا في يونيو 1966. شمل التصميم الحديث قبة بارتفاع سبعة أمتار، ومصلى ثماني الأضلاع، وثلاثة أروقة تؤدي إلى الحرم، بينما تم تغليف القبة بطبقة من اللون الأصفر الحنطي لتناسب لون الآجر التقليدي.
أُضيف إلى الجامع مكتبة واسعة أنشأها الشيخ جلال الدين الحنفي في الطابق العلوي من الحرم، وتضم كتبًا ومخطوطات نادرة في الشريعة والقانون واللغة، كما ساهم في المحافظة على الجامع طوال سنوات خدمته كإمام وخطيب، وطلب من الحاج عبد الأمير الحداد تصميم سياج حديدي مزخرف بالخط الديواني حول المسجد، رغم أن الحداد كان أميًا لا يعرف القراءة، إلا أنه تمكن من تنفيذ واحد من أجمل النماذج الحديدية الفنية في المساجد الإسلامية.
جامع الخلفاء كان ولا يزال يمثل ذاكرة بغداد الدينية والسياسية، ففيه أقيمت صلاة الجمعة الرسمية للدولة العباسية، وقُرئت فيه عهود القضاة، وصُلي على جنائز العلماء، واحتضن حلقات العلم والمناظرة، كما ارتبط بالتحولات العمرانية للمدينة، حيث أُزيل جزء منه لفتح شارع الجمهورية، ما غيّر معالم محيطه لكنه لم يُفقده مكانته التاريخية.