يُعد جامع الإمام الأعظم في بغداد من أبرز المعالم الإسلامية التي جمعت بين العبادة والعلم، ويقع في منطقة الأعظمية شمال العاصمة العراقية على جهة الرصافة، وقد ارتبط اسم المنطقة بهذا المسجد التاريخي الذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 375 هـ، والذي لا يزال قائمًا حتى اليوم كرمز ديني وثقافي يمتد لقرون.
يمتاز هذا الجامع بتاريخه العريق، إذ يضم إلى جواره مدرسة فقهية أسسها الإمام أبو حنيفة النعمان، وهي إحدى أقدم المدارس الدينية في العراق، وقد تطورت هذه المدرسة مع مرور الزمن حتى أصبحت تُعرف حاليًّا باسم كلية الإمام الأعظم، حيث واصلت أداء رسالتها العلمية رغم المتغيرات السياسية والثقافية التي شهدتها البلاد.
وتُعتبر كلية الإمام الأعظم واحدة من أقدم ثلاث جامعات على مستوى العالم، فهي تسبق أقدم الجامعات الأوروبية بنحو قرنين، إذ تأسست جامعة بولونيا في إيطاليا عام 1088م، بينما بُني جامع الإمام الأعظم قبل ذلك في القرن الرابع الهجري، إلى جانب جامع القرويين في المغرب الذي أُنشئ عام 859م، والجامع الأزهر في القاهرة الذي تأسس عام 972م.
ويُشكل هذا الجامع مع المدرسة الملاصقة له نواة حضارية جمعت بين الدور الديني والتعليمي، فقد تخرّج منه آلاف الطلاب والعلماء على مر العصور، وساهم في نشر الفقه الحنفي في العراق والمناطق المجاورة، واحتضن حلقات العلم ومجالس الفتوى، ما جعله أحد المراكز المعرفية الإسلامية المؤثرة في تاريخ العراق والمنطقة.
وتُشير الدراسات التاريخية إلى أن البناء الأصلي للجامع حافظ على طابعه المعماري العباسي، وقد خضع لعدة ترميمات وتوسعات عبر العصور المختلفة، بما في ذلك العهد العثماني والعصر الحديث، دون المساس بالقيمة الرمزية للجامع في نفوس العراقيين، الذين يرون فيه إرثًا دينيًا وروحيًا لا يُقدّر بثمن.
ولا يقتصر حضور الجامع على الجانب الديني، بل يتعداه إلى البعد الاجتماعي، حيث تحول إلى معلم ثقافي يرتاده الزوار والباحثون والطلاب، وشكّل محورًا للحياة في منطقة الأعظمية، التي استمدت اسمها من هذا الجامع ومن مكانة الإمام أبي حنيفة، المدفون في المقبرة المجاورة له، والتي يقصدها آلاف الزوار سنويًا.
وقد ساهم الجامع في ترسيخ مفاهيم التعايش والمعرفة والاحترام بين المذاهب الإسلامية المختلفة، ما جعله منارات فكرية نادرة حافظت على استمراريتها، وبقيت شاهدة على دور بغداد كمركز للعلم والدين.