تُجسّد مدينة تيبازة الجزائرية أحد أبرز شواهد الحضارات القديمة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث تجمع بين عبق التاريخ وتنوع الثقافات في موقع أثري استثنائي مدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 2002.
تقع المدينة غرب العاصمة الجزائر بنحو 70 كيلومترًا، وتُعد تيبازة من أكثر المواقع الأثرية تنوعًا في شمال إفريقيا، إذ تحتوي على أطلال تعود إلى حضارات فينيقية ورومانية ومسيحية مبكرة وبيزنطية، إلى جانب بقايا محلية بارزة مثل الضريح الملكي الموريتاني المعروف بقبر الرومية، وهو معلم جنائزي عظيم يمزج بين العمارة المحلية والهندسة الهلنستية.
بدأت تيبازة مسيرتها التاريخية كمركز تجاري أنشأه الفينيقيون في القرن السادس قبل الميلاد، حيث لعبت دورًا محوريًا كميناء بحري للتبادل التجاري مع القبائل المحلية، وسرعان ما أصبحت ملتقى للحضارات، إذ تكشف المقابر الجنائزية المنتشرة في الموقع عن تنوع ثقافي واسع في طقوس الدفن وأساليبه، مما يعكس التفاعل الحضاري العميق بين الشعوب التي مرت من هناك أو استقرت فيها.
ومع دخول الرومان إلى شمال إفريقيا، أصبحت تيبازة قاعدة استراتيجية لانطلاق حملاتهم العسكرية لضم ممالك موريطانيا، وازدهرت خلالها الحياة الحضرية والمعمارية، حيث أُقيمت المسارح والحمامات العامة والمعابد والساحات المفتوحة التي عكست روعة التنظيم المدني في تلك الحقبة.
وتُبرز فترة انتشار المسيحية من القرن الثالث إلى القرن الخامس الميلادي حضورًا دينيًا وثقافيًا قويًا في المدينة، حيث بُنيت كنائس فسيحة ذات أرضيات فسيفسائية مبهرة تحاكي الحياة اليومية وتصور رموزًا دينية وهندسية بدقة فنية متقنة.
ورغم اجتياح الوندال في أربعينيات القرن الخامس الميلادي، الذي تسبب في تدهور الوضع السياسي، فقد استعادت تيبازة شيئًا من مكانتها بعد استردادها من قبل البيزنطيين عام 531 ميلادية، إلا أن إشعاعها الحضاري أخذ في التراجع تدريجيًا بحلول القرن السادس.
وتنقسم تيبازة اليوم إلى ثلاثة مواقع رئيسية تحظى بالحماية القانونية، اثنان منها عبارة عن حدائق أثرية وسط النسيج العمراني الحديث، والثالث يتمثل في الضريح الملكي الموريتاني القابع على هضبة ساحلية جنوب شرقي المدينة، غير أن هذه المواقع تظل مهددة بعدة مخاطر، مثل الزحف العمراني غير المنظم، والضغط السياحي، والرعي غير الشرعي، ما يجعلها بحاجة إلى مزيد من الحماية والتخطيط المستدام.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الخصائص المعمارية والزخرفية للموقع تحتفظ بجزء كبير من أصالتها، وتستمر جهود الدولة في ترميمها عبر عدة أطر قانونية، من أبرزها القانون الإقليمي 90-30، وخطة الحماية والتثمين، التي تُشرف عليها وزارة الثقافة ومكتب تسيير واستغلال الممتلكات الثقافية لولاية تيبازة.
تُعد تيبازة اليوم ليست مجرد موقع أثري، بل سردية مفتوحة لتاريخ البحر الأبيض المتوسط، حيث تلتقي حضارات الشرق والغرب، وتتحدث أطلالها بلغة الماضي التي لا تزال تنبض في أروقة التاريخ، ما يجعلها من أبرز الشواهد الحية على عبقرية الإنسان في التفاعل مع المكان عبر آلاف السنين.
المصدر: اليونسكو