تُعد الهريسة طبقاً تراثياً لبنانياً وعربياً بامتياز، وهي وجبة قديمة ذات دلالة تاريخية وثقافية عميقة، تتميز بكونها طعاماً احتفالياً يرتبط غالباً بالمناسبات الدينية أو الاجتماعية الكبيرة، وخاصةً مواسم الحج والأعياد، تعتبر الهريسة وجبة دسمة وغنية، وهي تُقدم عادةً ضمن تجمعات كبيرة، ما يعكس روح الكرم والضيافة في الثقافة اللبنانية.
تتكون الهريسة من مكونين رئيسيين يتم طهيهما معاً لساعات طويلة حتى يتجانسا تماماً، وهما حبوب القمح الكامل، واللحم، يُستخدم عادةً لحم الضأن أو الماعز كونه يعطي نكهة غنية للمزيج، يُغسل القمح ويُنقع جيداً، ثم يُخلط مع قطع اللحم والماء، ويُتبّل بالملح فقط لتركيز النكهة الأساسية.
يُطهى الخليط على نار هادئة جداً ولفترة زمنية طويلة قد تصل إلى ست أو ثماني ساعات متواصلة، يُشرف على عملية الطهي شخص واحد مسؤول، ويكون التحريك مستمراً وهادئاً، يؤدي الطهي الطويل والتحريك المتواصل إلى تفتت اللحم وتكسر حبات القمح، لتتحول الوجبة إلى خليط كثيف ومتجانس وناعم يشبه العصيدة.

تُعد عملية تحضير الهريسة التقليدية طقساً اجتماعياً، حيث تُطهى عادةً في قدور نحاسية ضخمة في الساحات العامة أو المضايف، يُشارك الرجال في عملية التحريك الشاقة والمستمرة باستخدام مغارف خشبية كبيرة، ما يجعلها مناسبة تتطلب جهداً جماعياً، تُوزع الهريسة بعد نضجها في أطباق على الفقراء والمحتاجين، كنوع من الوفاء بالنذور أو كعمل خيري، ما يزيد من قيمتها المعنوية.
تُقدم الهريسة ساخنة في أطباق فردية، ويُزيّن وجهها عادةً بقطع من السمن البلدي المذاب أو الزبدة الساخنة، يُفضل البعض رش القليل من القرفة المطحونة على الوجه قبل التقديم، لإضافة نكهة عطرية مميزة تتناغم مع دسامة الطبق، تُعتبر الهريسة طبقاً شتوياً دافئاً، حيث تمد الجسم بالطاقة اللازمة لمقاومة البرد، وتُشعره بالشبع لساعات طويلة.
تُمثل الهريسة تاريخاً حياً على المائدة اللبنانية، فهي تجسد البساطة في المكونات، والجهد الكبير في التحضير، والكرم في التوزيع، تظل هذه الوجبة العريقة دليلاً على ترابط المجتمع وتماسك الأفراد حول قيم الإحسان والمشاركة في المناسبات الكبرى.
المصدر: ويكيبيديا