الثلاثاء 1447/07/03هـ (23-12-2025م)
الرئيسية » جولة في التراث » سوريا » غير مادي » التراث الصناعي » الموزاييك المعدني.. فن “التكفيت” التراثي يروي قصة الإبداع في دمشق

الموزاييك المعدني.. فن “التكفيت” التراثي يروي قصة الإبداع في دمشق

يُعد “الموزاييك المعدني”، أو ما يُعرف في الحرف اليدوية العربية بـ “التكفيت”، واحداً من أروع وأدق الفنون الصناعية التراثية التي ازدهرت في المدن العربية العريقة، وخاصة دمشق الشام التي تحتل مكانة ريادية في هذا المجال.

تتجسد روعة هذا الفن في قدرة الحرفي على تحويل المعادن البسيطة إلى تحف فنية معقدة وراقية، من خلال مزجها ببراعة ودقة، فكانت النتيجة قطعاً فنية تروي قصة حضارة عريقة.

تكمن أهمية التكفيت في جمعه بين المتانة الصناعية والجمالية الفنية، مما يجعله فناً تطبيقياً وفنياً في آن واحد، استخدم لتزيين أدوات الحياة اليومية والأعمال الفنية الفاخرة.

تعتمد تقنية الموزاييك المعدني بشكل أساسي على تطعيم معدن بآخر، حيث يتم حفر أخاديد أو نقوش دقيقة جداً على سطح المعدن الأساسي (غالباً ما يكون النحاس أو البرونز)، تُملأ هذه الأخاديد بشرائط رفيعة جداً من معدن آخر أكثر قيمة (مثل الفضة أو الذهب أو النحاس الأحمر)، وتُطرق هذه الشرائط بمهارة لتلتصق بالمعدن الأساسي وتتداخل معه تماماً، يتم بعدها صقل السطح بأكمله بعناية فائقة حتى يصبح مستوياً ولامعاً، وتبرز النقوش المعدنية المتداخلة بجمالية فائقة، فتبدو القطعة كلوحة مرسومة بألوان من المعادن المتألقة.

الموزاييك الدمشقي.. حِرفة عريقة تحتضر تحت أنظارنا

يُعرف هذا الفن بالدقة البالغة التي يتطلبها، فعملية الحفر والتطعيم تتطلب صبراً أيوبياً ومهارة يدوية استثنائية من الحرفي، فضلاً عن حس فني عالٍ في اختيار النقوش والزخارف.

تتراوح الزخارف المستخدمة في التكفيت بين الأشكال الهندسية المعقدة، والزخارف النباتية المستوحاة من الطبيعة، والخطوط العربية الجميلة التي تُكتب بها الآيات القرآنية أو الحكم والأمثال، تُصنع من خلال هذا الفن قطع متنوعة، مثل الأواني النحاسية المذهبة، وصناديق المجوهرات المزخرفة بالفضة، والمباخر، وحتى الأثاث المعدني الذي كان يزين القصور والمنازل الفاخرة.

ازدهر فن الموزاييك المعدني “التكفيت” في دمشق بشكل خاص خلال العصور الوسطى، ثم عاد للازدهار في العصر العثماني وما بعده، حيث أصبحت دمشق مركزاً عالمياً لتصدير هذه التحف الفنية.

يُشار إلى أن هذا الفن كان له حضور في مناطق أخرى كالموصل في العراق والقاهرة في مصر، ولكن الصبغة الدمشقية ظلت مميزة بأصالتها ونقوشها الخاصة.

توارثت العائلات الدمشقية أسرار هذه الحرفة عبر الأجيال، حيث كانت تنتقل المهارات من الأب إلى الابن، مما حافظ على استمرارية هذا الإرث الفني الغني.

واجه فن التكفيت تحديات كبيرة في العصر الحديث مع ظهور الصناعات الآلية والمنتجات الرخيصة، مما هدد باندثار هذه الحرفة اليدوية الفاخرة، تُبذل اليوم جهود حثيثة في سوريا ودول عربية أخرى للحفاظ على هذا التراث من خلال ورش العمل، ودعم الحرفيين المهرة، وتشجيعهم على نقل خبراتهم إلى الشباب.

تُعرض هذه التحف الفنية اليوم في المتاحف العالمية كشاهد على براعة الفن الإسلامي والعربي، وهي تُطلب كقطع فاخرة تُزين المنازل والمجموعات الفنية الخاصة.

يبقى الموزاييك المعدني “التكفيت” رمزاً للإتقان والجمال الذي يميز الحرف اليدوية العربية، فهو ليس مجرد صناعة، بل هو فن يحكي قصة حضارة كاملة عاشت وتطورت، وتركت إرثاً فنياً خالداً، تستمر دمشق، رغم كل الظروف، في احتضان هذا الفن، فصناعها المهرة يواصلون الطرق والحفر، ليحافظوا على إيقاع الأجداد الذي يتردد في كل قطعة مزينة بالفضة والنحاس.

المصدر: عربي بوست
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار