انطلق فن المالوف القسنطيني من أصول أندلسية قديمة، وتحوّل عبر القرون إلى أحد أعمدة التراث الموسيقي في الجزائر، حيث احتضنته مدينة قسنطينة وطورته ليصبح رمزاً لهويتها الثقافية ومجالاً لتعبير الأجيال عن ارتباطها بالتاريخ، وقد حمل المورسكيون هذا الفن معهم بعد خروجهم من الأندلس ليستقر في شمال أفريقيا، وشهد في قسنطينة تحديداً ازدهاراً كبيراً خلال الحقبة العثمانية، حيث أصبح جزءاً لا يتجزأ من الموروث المحلي.
مثّل المالوف عبر العصور وسيلة لتوثيق الذاكرة الثقافية والاجتماعية، حيث تعكس ألحانه وكلماته مراحل تاريخية متعددة، ويقوم على قواعد دقيقة في الأداء الموسيقي والشعري، ما يجعله أحد الفنون التي تتطلب دراسة وتدريباً مستمراً، وقد أسهم هذا الفن في بناء هوية موسيقية محلية خاصة بقسنطينة، حيث حافظ أهلها عليه من خلال التعليم الشفهي والمجالس الفنية التي تنتقل فيها المعرفة من جيل إلى آخر.
برز المالوف القسنطيني كجسر يربط بين الأجيال، حيث يسعى الشيوخ والأساتذة إلى تدريب الشباب على أصوله وضوابطه، من خلال جمعيات متخصصة ومدارس موسيقية، كما يتم تنظيم مهرجانات دورية تستعرض أهم القطع الموسيقية وتكرم الرواد وتحفّز الجيل الجديد على الاستمرار في حمل هذا التراث، وتشكّل هذه الفعاليات فرصة لاكتشاف التنوع الداخلي للمالوف من حيث الطبوع والنصوص والأداء، مما يضمن الحفاظ على أصالته واستمراره.
يحظى هذا النوع من الموسيقى بدعم رسمي من وزارة الثقافة الجزائرية، حيث تعمل المؤسسات الثقافية على رعاية المهرجانات وتوفير الدعم للمبادرات الهادفة إلى توثيق النصوص الشعرية والألحان الأصلية، كما يتم الاهتمام بجمع المخطوطات وتسجيل الأعمال التراثية وفق معايير تحفظ النمط الكلاسيكي وتمنع التشويه أو الاجتزاء، في وقت تحاول بعض التجارب الحديثة المزج بين المالوف وبعض الآلات المعاصرة دون المساس بجوهر الفن.
تستمد قسنطينة جزءاً كبيراً من هويتها من ارتباطها بالمالوف، وهو ما يفسر تمسك سكانها بهذا الفن ومشاركتهم في الحفاظ عليه، كما تحرص الأسر والعائلات على حضور الحفلات التقليدية وتدريب الأبناء على الإنشاد، مما يعكس أن المالوف ليس مجرد موسيقى بل هو نظام حياة وفكر ثقافي متكامل، يستدعي التفاعل معه بكل جدية لضمان بقائه ضمن الخارطة الفنية الوطنية.
يمثل المالوف القسنطيني اليوم نموذجاً للفن الذي يصمد أمام موجات التغيير الثقافي، ويُثبت قدرته على التأثير والإلهام، حيث لا يزال مرجعاً للعديد من الموسيقيين والمهتمين بالتراث، ويواصل أداءه في القاعات والمهرجانات والمؤسسات التعليمية، مؤكداً بذلك أن الثقافة الحية هي التي تتجذر في المكان وتستمر في الزمن.
المصدر: ويكيبيديا