السبت 1447/06/01هـ (22-11-2025م)
الرئيسية » جولة في التراث » المغرب » غير مادي » فنون الأداء » القناوة.. إيقاعات الشفاء الصوفية ترسم خريطة التراث الأفريقي في المغرب

القناوة.. إيقاعات الشفاء الصوفية ترسم خريطة التراث الأفريقي في المغرب

تُعدّ موسيقى ورقصة القناوة ظاهرة ثقافية فريدة, تتجاوز كونها مجرد فن أدائي لتصبح جزءاً حياً ونابضاً من التراث اللامادي للمملكة المغربية وشمال أفريقيا بأسرها، تشكل هذه الطقوس الإيقاعية جسراً تاريخياً يربط بين الثقافة المغربية العريقة والعمق الأفريقي جنوب الصحراء, خاصة عبر الجاليات التي قدمت إلى المغرب في العصور الماضية.

تعتبر القناوة في جوهرها ممارسة صوفية روحانية عميقة, نشأت من خلال أحفاد العبيد والتجار الذين جاؤوا من دول غرب أفريقيا مثل مالي وغينيا والسنغال، وحافظ هؤلاء الوافدون على تقاليدهم الإيمانية والموسيقية المتوارثة, ودمجوها لاحقاً مع الطابع الصوفي الإسلامي المحلي, لتُولد تركيبة ثقافية وفنية متفردة.

تتميز موسيقى القناوة بآلاتها الفريدة, وفي مقدمتها آلة الكمبري (أو الهجهوج), وهي آلة وترية تشبه العود بثلاثة أوتار, وتنتج أصواتاً عميقة تذكر بالقيثارة الأفريقية، تصاحب الكمبري آلات الإيقاع المعدنية الصارخة المعروفة باسم القراقب, التي تشبه الصنوج الكبيرة, بالإضافة إلى الطبول التي تضبط الإيقاع الروحي السريع.

إيقاعات وألوان موسيقية مختلفة في ختام مهرجان "كناوة" بالمغرب | سكاي نيوز عربية

يتمحور الأداء التقليدي للقناوة, المعروف باسم “الليلة”, حول طقس روحي علاجي يستمر لساعات طويلة, يهدف إلى تحقيق الشفاء النفسي والجسدي للمشاركين، ويُعتقد أن هذه الموسيقى والإيقاعات القوية قادرة على استحضار الأرواح (الملوك) الطيبة والمساعدة على “الجدبة” (الجذب أو النشوة الصوفية), التي تمثل حالة من التسامي الروحي.

تتكون رقصة القناوة من حركات دائرية قوية ومتكررة, يرتدي فيها المؤدون ملابس تقليدية زاهية الألوان, تتميز بالقبعات الكبيرة المزينة بالودع وشراشيب طويلة، وتعكس الألوان الزاهية المستخدمة في أزياء القناوة التنوع الأفريقي الغني, كما تحمل كل حركة رقص دلالة رمزية وروحانية خاصة في سياق “الليلة” العلاجية.

ارتبط فن القناوة بالتراث المغربي بشكل وثيق, لدرجة أن منظمة اليونسكو أدرجته رسمياً في عام 2019 ضمن قائمة التراث الثقافي اللامادي للإنسانية, اعترافاً بقيمته التاريخية والفنية، وساهم هذا الاعتراف الدولي في حماية هذا الفن العريق, وضمان استمراريته ونقله للأجيال القادمة, بعيداً عن خطر الاندثار الثقافي.

لم يعد فن القناوة مقتصراً على الطقوس الروحانية المغلقة فقط, بل تحول أيضاً إلى ظاهرة فنية عالمية, تجذب الآلاف من الجمهور والسياح سنوياً، ويُعد مهرجان كناوة وموسيقى العالم في الصويرة منصة دولية رئيسية, حيث يجمع فنانين من جميع أنحاء العالم, مما يثبت قدرة هذا الفن التراثي على الانفتاح والحوار الثقافي.

حافظت القناوة على أصالتها الروحانية على الرغم من هذا الانفتاح الفني, حيث لا يزال “المعلم” (قائد الفرقة) يحتل مكانة رفيعة, ويعتبر حاملاً للمعرفة التقليدية المتوارثة شفهياً عبر الأجيال. يظل الإيقاع القناوي هو النبض الحي لذاكرة هؤلاء الأجداد الأفارقة, الذين وجدوا في أرض المغرب ملاذاً لحفظ تراثهم وقيمهم الروحية السامية.

تُقدم رقصة القناوة درساً في قدرة التراث على التكيف والصمود, حيث نجحت في الحفاظ على جوهرها الصوفي العميق, بينما استوعبت التأثيرات الحديثة وشاركت في الحوار الموسيقي العالمي، إنها ليست مجرد رقصة إيقاعية, بل هي سجل تاريخي حي, يحكي قصص الرحلة والعبور والبحث عن الخلاص الروحي على مر العصور.

المصدر: ويكيبيديا

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار