يحمل فن القط العسيري في طياته تفاصيل دقيقة من الموروث الثقافي الغني لمنطقة عسير، وقد استطاع هذا الفن أن يحتفظ ببريقه وجاذبيته على مرّ العصور، ليصبح اليوم أحد أبرز الرموز التي تعبّر عن الهوية البصرية للمملكة العربية السعودية.
وقد نشأ هذا الفن في أحضان المنازل العسيرية القديمة، حيث كانت النساء هنّ من يتولين زخرفة الجدران الداخلية برسومات هندسية متناسقة، تحمل ألوانًا زاهية ورموزًا تعبّر عن الحياة اليومية، ومظاهر الطبيعة، والمناسبات الاجتماعية، ويأتي هذا الفن كثمرة لتفاعل طويل بين الإنسان والبيئة، يعكس عمق التراث الشعبي وروح الجماعة في المجتمعات الجبلية.
برز فن القط العسيري في السنوات الأخيرة كمجال اهتمام واسع من قِبل المؤسسات الثقافية السعودية، وكذلك الباحثين والمهتمين بالفنون الشعبية حول العالم، بعد أن أدرجته منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية.
وقد جاء هذا الإدراج ليؤكد على القيمة الجمالية والرمزية لهذا الفن، الذي لا يقتصر على الزخرفة بل يتعدّاها إلى كونه أسلوبًا للتعبير عن الأحاسيس والانتماء، حيث تختلف الألوان والزخارف باختلاف الحدث أو المناسبة أو حتى مزاج الفنانة.
وكان للنساء الدور الريادي في حفظ هذا التراث وتوريثه جيلًا بعد جيل، بما يعكس حضور المرأة كعنصر فاعل في تشكيل الموروث الثقافي.
يُستخدم في هذا الفن عدد من الأشكال الهندسية المتكررة مثل المثلثات والمربعات والخطوط المتقاطعة، والتي تُرسم يدويًا بألوان قوية كالأسود والأحمر والأصفر والأزرق، لتتحول الجدران إلى لوحات بصرية تحمل دلالات عميقة عن ثقافة المكان وأسلوب العيش فيه.
وغالبًا ما ترتبط الزخارف بالبيئة المحيطة، إذ تستلهم أنماطها من الطبيعة، كالجبال والزهور وملامح الحياة الريفية، مما يمنح كل عمل طابعًا خاصًا لا يتكرر.
كما يرمز هذا الفن إلى التعاون بين نساء الحي، حيث كانت عملية الزخرفة تتم في المناسبات الاجتماعية الكبرى، ما يضفي عليه بعدًا اجتماعيًا وروحيًا.
ولم يكن هذا الاهتمام حبيس الماضي أو البيوت التقليدية، بل شهد فن القط العسيري تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، مدفوعًا بدعم مؤسساتي وجهود وطنية لتوثيقه وتطويره، عبر فعاليات ثقافية ومهرجانات تراثية متعددة، إلى جانب إدماجه في التصميمات الحديثة ومنتجات الحرف اليدوية، ما أسهم في تعزيز حضوره على المستوى المحلي والدولي.
وفي هذا السياق، أعلن المعهد الملكي للفنون التقليدية “ورث”، بالتعاون مع شركة السودة للتطوير، عن تنظيم برنامج تدريبي لفن القط العسيري في منطقة عسير خلال الفترة من 27 إلى 31 يوليو 2025، ضمن مشروع السودة السياحي.
ويهدف هذا البرنامج إلى ترسيخ الفنون التقليدية وتعليم أسسها للأجيال الجديدة، حيث يتضمّن تدريبات عملية على تقنيات التزيين والرسم، وصناعة الألوان الطبيعية، إلى جانب محاضرات تعريفية بتاريخ هذا الفن وأبعاده الثقافية.
وتُمثّل هذه المبادرة خطوة ملموسة نحو تمكين الكفاءات الوطنية، وتحفيز ريادة الأعمال في الفنون التراثية، بما يعزز من مكانة هذا الفن كجزء من الهوية الثقافية السعودية، ويُسهم في تنمية الحرف اليدوية التي تشكل أحد ركائز رؤية المملكة في الحفاظ على التراث الحي.
المصدر: أخبار 24