الأثنين 1447/04/21هـ (13-10-2025م)
الرئيسية » جولة في التراث » المغرب » مرئي » الملابس » “السلهم الضامر”.. قصة رداء يرفض الانفصال عن ذاكرة المغاربة المتجذرة

“السلهم الضامر”.. قصة رداء يرفض الانفصال عن ذاكرة المغاربة المتجذرة

يعتبر السلهام المغربي واحدًا من الأزياء التقليدية التي توغلت في عمق التاريخ، فهو رداء أصيل للرجال، لم يقتصر ارتداؤه على السلاطين ورجال المخزن والفقهاء، بل شمل عامة الناس أيضًا، حتى بات الهندام يُعد ناقصًا دونه، خاصة في المناسبات الكبرى كالأعياد والمراسيم الرسمية.

يأتي السلهام قطعة فضفاضة واسعة تشبه في هيئتها الخارجية شكل الجرس، وهو يُصنع من أقمشة نبيلة مثل الصوف أو الكشمير أو الديباج، ويُلْبَس فوق الجلباب مباشرة.

يتميز هذا الرداء بكونه بلا أكمام، ومفتوحًا بالكامل تقريبًا من الأمام، حيث لا تتعدى الخياطة حيزًا صغيرًا عند مطلع العنق والصدر، يُتوّج السلهام بقبّ واسع وعريض يُعرف بـ “القبّ”، وقد تصل سعته إلى درجة تغطية الرأس لمرتين أو ثلاث مرات، ما يضفي على مرتديها هيبة ووقارًا خاصًا.

يُرجّح الباحثون أن هذا الزي اكتسب اسمه من الفعل “اسلهم”، الذي يفيد معنى التغير أو التغيير، في إشارة إلى التحول الذي يمنحه للزي العام عند ارتدائه، تُشير روايات أخرى إلى اشتقاقه من كلمة “السلهم” العربية، التي تعني الضامر الطويل، وهو الوصف الذي ينطبق على هذا الرداء الرجالي الأنيق.

صفحات جزائرية تروج لادعاءات كاذبة للاستيلاء على "السلهام المغربي" - العمق المغربي

تُشير المراجع التاريخية إلى أن السلهام يُعد من أبرز العلامات التي ميزت الأمازيغ من سكان المغرب الأقدمين، إلى جانب عادات أخرى مثل حلق شعر الرأس وأكل الكسكس، انتشرت شهرة هذا الرداء في بلدان المشرق العربي، حيث عُرف بأنه زي مغربي أصيل لا نظير له في باقي الأقطار العربية والإسلامية، ما أكسبه صفة التفرد.

اعتاد المغاربة منذ القدم على ارتدائه بوضعه على الكتفين مباشرة دون إدخال الأيدي في فتحات جانبية، وهي طريقة ما زال يحافظ عليها بعض الحضريين من النخبة، يُلاحظ تكرار هذه الطريقة في أيام الأعياد والجمع وبعض المناسبات التقليدية، تأكيدًا على التمسك بالجذور العميقة لبروتوكول اللباس التقليدي الأصيل.

اشتهرت مناطق معينة في المغرب كمركز لصناعة هذا الرداء الفخم، ومن أبرزها منطقة جبل مديون، الواقعة شرقي مدينة فاس، ونواحي تادلا، اختصت بعض أحياء فاس العتيقة بصنع كل ما يزين هذا اللباس من تطريز وزخرفة، ما جعلها عاصمة لهذه الصناعة التقليدية التي حافظت على دقتها.

وصلت الأندلس إلى شأن رفيع في مجال تزيين السلهام، حيث تذكر الهدايا الملكية في عهد الحكم الثاني المستنصر برنسًا مزينًا بلوزة مفرغة من خالص التبر، ومرصعة بالجوهر والياقوت، يعكس هذا التبادل الحضاري مدى الأهمية التي كان يوليها البلاط الملكي لهذه القطعة، كرمز للفخامة والتقدير بين الممالك.

ظلّ السلهام على مدى قرون طويلة لباسًا ذكوريًا خالصًا، حيث كان يُعتبر من المعيب أن يظهر الرجل، وخاصة في المناسبات الدينية والأعياد، وهو “حاسر الكتفين” من دونه، شكل هذا الرداء أيضًا لسكان القرى والبوادي النائية وسيلة فعالة للوقاية من البرد القارص وقساوة الشتاء، ما جمعه بين الوظيفة الرسمية والعملية.

ذُكر تاريخيًا أن نساء الفئات الميسورة في العصر العباسي اتخذن غطاء رأس يُعرف باسم “البرنس”، كان مرصعًا بالجواهر ومحلى بسلسلة ذهبية مطعمة بالأحجار الكريمة، وتُشير هذه المعلومة إلى وجود جذور لاستخدام غطاء رأس شبيه من قبل النساء، وإن كان في سياقات مختلفة عن السلهام الرجالي المباشر.

شهد هذا اللباس تحولات جذرية في العصر الحديث، ما جعله يتجاوز كونه حكرًا على الرجال، فقد أقبلت عليه النساء بشغف كبير، ونجح مصممو الأزياء المعاصرون في تطويعه وتحويله من زي رجالي تقليدي إلى قطعة عصرية حديثة، لتواكب التطورات في عالم الموضة وتجذب النجمات وكلّ عاشقات الأصالة بلمسة الحاضر.

يُؤكد هذا التحول الثقافي على مرونة السلهام وقدرته الفائقة على التكيف مع التغيرات الاجتماعية والجمالية، مع الحفاظ على جوهره كرمز للهوية المغربية المتأصلة، ويظل السلهام دليلًا ساطعًا على عمق التراث المغربي، وبوابة تُطل منها الأجيال الجديدة على تاريخ عريق من الأناقة والوقار الذي لا يزول.

يستمر السلهام في كونه “البروتوكول الصامت” للرجل والمرأة المغربيين، حيث يحمل في طياته إرث السلاطين وعمق التاريخ الأمازيغي الذي لا يمحوه الزمن، ويُشير هذا الرداء إلى أن الملابس ليست مجرد أقمشة، بل هي وثيقة حية تعبر عن الانتماء والاعتزاز الثقافي الممتد عبر العصور والأجيال المتعاقبة.

المصدر: المغرب 24

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار