الأربعاء 1447/05/14هـ (05-11-2025م)
الرئيسية » جولة في التراث » العراق » مرئي » الآثار » أيقونة بغداد الخالدة.. شارع الرشيد يستنطق ذاكرة قرن من الفن والسياسة وصخب الحياة العابرة

أيقونة بغداد الخالدة.. شارع الرشيد يستنطق ذاكرة قرن من الفن والسياسة وصخب الحياة العابرة

يستعيد شارع الرشيد في بغداد ماضيه الثقافي العريق، إذ يجسد هذا الشارع إرثاً حضارياً وإنسانياً وثقافياً يمتد لأكثر من قرن، ويُعد من أهم الشواهد الحية على تحولات العاصمة العراقية منذ العهد العثماني حتى اليوم، حيث اختزل بين أزقته ومبانيه قصصاً عن الفن والسياسة والمجتمع، واحتضن أهم الأسماء التي صنعت الذاكرة الفنية العربية.

بدأ إنشاء شارع الرشيد عام 1916 على يد خليل باشا، حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني، وكان الهدف منه تسهيل حركة العربات العسكرية بين الباب الشرقي وباب المعظم، وسُمّي آنذاك «خليل باشا جادة سيتي».

ومع مرور السنوات، تحوّل من ممر عسكري إلى مركز نابض بالحياة الثقافية، واحتضن المسارح ودور السينما والمقاهي الأدبية، ثم استقر اسمه عام 1936 بقرار من أمانة العاصمة بناءً على اقتراح العالم العراقي مصطفى جواد، تيمناً بالخليفة العباسي هارون الرشيد.

شهد الشارع محطات سياسية بارزة، منها محاولة اغتيال فاشلة لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بعد ثورة 1958، لكنه ظل رمزاً مدنياً أكثر منه سياسياً، إذ شكّل ملتقى المثقفين والفنانين الذين أسسوا لحركة فنية راقية امتدت تأثيراتها إلى الوطن العربي كله.

_مدخل شارع الرشيد من جهة باب المعظم،الجزيرة نت

احتضن شارع الرشيد أول شركة لتسجيل الأسطوانات في العراق، وهي شركة «جقماقجي» التي تأسست عام 1918، وكانت تسجل لأشهر المطربين العراقيين والعرب مثل محمد القبانجي وناظم الغزالي وسليمة باشا وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وشكّلت هذه الشركة مرجعاً توثيقياً لذاكرة الغناء العراقي والعربي، قبل أن يتراجع نشاطها في التسعينيات بسبب تطور الوسائط الحديثة.

وتحوّل الشارع إلى مركز فني مزدحم بالملاهي والمسارح، ومن أبرزها ملهى «روكسي» الذي استضاف عروض فرقة بديعة مصابني في الثلاثينيات، ومسرح «الهلال» الذي شهد واحدة من أهم اللحظات الفنية في تاريخ بغداد عندما غنت فيه أم كلثوم عام 1932، حيث ازدحمت القاعات بالجمهور، وكتب الشاعر معروف الرصافي قصيدة ترحيب بها، ووصفت الصحف تلك الحفلات بأنها حدث ثقافي نادر جمع بين بابل وفرعون على أرض الرافدين.

وشهد الشارع أيضاً بدايات السينما العراقية، فاحتضن دور عرض مثل سينما «الزوراء» و«الوطني» و«روكسي»، وكانت تعرض فيها أفلام ومسرحيات لفرق عربية زائرة، كما شهدت صالة السينما الوطني أول عرض لفرقة فاطمة رشدي، وزارها الفنان جورج أبيض بفرقته لتقديم العروض المسرحية.

وشكّل شارع الرشيد مدرسة فنية متكاملة خرجت منها أجيال من المطربين والموسيقيين والممثلين، فقد احتضن معاهد لتعليم الموسيقى والرقص الغربي في منطقة المربعة، وكان من رواده الفنان جميل بشير الذي أسس مدرسة موسيقية متميزة، كما قدمت فايزة أحمد ونرجس شوقي حفلات غنائية فيه نقلها التلفزيون العراقي مباشرة في خمسينيات القرن الماضي.

ويرى مؤرخو بغداد أن شارع الرشيد لم يكن مجرد طريق، بل كان ذاكرة وطنية وثقافية تلخّص مراحل النهوض والانكسار في المجتمع العراقي، إذ ما زال كثير من مبانيه تحمل ملامح العمارة العثمانية والانتدابية والملكية، لتبقى شاهدة على قرن من التحولات في العاصمة التي كانت يوماً مركز إشعاع للفن العربي.

المصر: الجزيرة نت

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار