يُعد فن صناعة الزجاج ونفخه وتلوينه من الإنجازات الصناعية والحضارية الكبرى التي تفوقت فيها الحضارات العربية والإسلامية على مستوى العالم، فكانت تقنياتهم في هذا المجال متقدمة جداً خلال العصور الوسطى.
اِكتسبت المنطقة شهرة واسعة في إنتاج قطع زجاجية ذات جودة عالية وجمالية فائقة، مما جعلها مركزاً عالمياً لتصدير هذه التحف إلى أوروبا وأجزاء أخرى من آسيا وأفريقيا.
تتجسد براعة هذا الفن في قدرة الحرفي على تحويل الرمل والرماد إلى مادة شفافة ولامعة، ثم تشكيلها بدقة بالغة بواسطة الهواء والحرارة العالية.
تتضمن هذه الصناعة الراقية مهارة “نفخ الزجاج” اليدوي، التي تُعد تقنية تتطلب تركيزاً وجهداً جسدياً ومهارة متوارثة، فكانت العملية تُجرى على دفعات صغيرة، يستخدم الحرفي أنبوب نفخ معدني طويل لجمع كتلة من الزجاج المنصهر الساخن، ثم يبدأ بنفخ الهواء فيها وتدويرها وتشكيلها يدوياً لتتحول إلى أشكال فنية رقيقة وأنيقة، مثل الأكواب، والمزهريات، والقوارير ذات الرقبة الطويلة، تُعد هذه المرحلة الاختبار الحقيقي لمهارة الحرفي، حيث يتطلب العمل سرعة فائقة ودقة في التعامل مع مادة سريعة التصلب والتشقق.

تميز الزجاج العربي بالزخارف المعقدة والملونة التي كانت تُضاف إليه بتقنيات مختلفة، مثل التذهيب، والتلوين بالأكاسيد المعدنية، والنقش اليدوي البارز أو الغائر.
يُضاف إلى ذلك استخدام تقنية “الزجاج المعشق” أو “الفسيفساء الزجاجية” في تزيين النوافذ، حيث تُجمع قطع زجاجية صغيرة وملونة داخل إطار خشبي أو معدني، مما كان يضفي على المباني ألواناً وإضاءة طبيعية مبهرة.
كانت هذه النوافذ الزجاجية المعشقة تُستخدم بشكل واسع في القصور والمساجد والبيوت الفخمة في القاهرة ودمشق وحلب، لتكون جزءاً أساسياً من الطراز المعماري.
شكّلت مصابيح المساجد الزجاجية الملونة والمنقوشة بالآيات الكريمة والأدعية تحفاً فنية بحد ذاتها، وكانت تُعتبر من أرقى المنتجات التي تُصنع في الورش الإسلامية،كانت هذه المصابيح تُصدر إلى أوروبا وأجزاء أخرى من العالم، مما يدل على ريادة المنطقة في هذا المجال، حيث كانت الجودة والزخرفة الشرقية مطلوبة بشدة، تُعد هذه المصابيح اليوم قطعاً أثرية لا تُقدر بثمن، تُحفظ في أهم متاحف العالم لتشهد على عظمة هذا الفن.
يُواجه فن نفخ الزجاج اليدوي تحديات كبيرة اليوم، حيث تم استبداله بالإنتاج الصناعي الآلي، مما أدى إلى انحسار عدد الورش الحرفية المتبقية، تُبذل جهود للحفاظ على هذا التراث الحي، خاصة في الأماكن التي لا يزال فيها بعض الحرفيين المهرة يمارسون هذا الفن، حيث يُعرضون عملهم أمام الجمهور والسياح.
يبقى فن الزجاج الملون رمزاً للحضارة العربية الإسلامية، ودليلاً على الإبداع الذي يمزج بين العلم (الكيمياء والحرارة) والفن (التشكيل والتلوين).
المصدر: ويكيبيديا