يمثل موقع شحات الأثري في ليبيا أحد أهم المحطات التاريخية التي توثق امتداد الحضارات القديمة في شمال أفريقيا ، ويقع هذا الموقع المعروف أيضاً باسم قورينا في منطقة الجبل الأخضر شرق مدينة البيضاء ، وتأسس على يد الإغريق في القرن السابع قبل الميلاد كمستعمرة ثقافية وتجارية سرعان ما تحولت إلى مدينة مؤثرة ظلت حاضرة إدارية حتى القرن الرابع الميلادي.
ضمّ الموقع مجموعة واسعة من المعالم التي تعكس التنوع الديني والمعماري في فتراته المختلفة ، إذ يحتوي على معابد مخصصة للآلهة الإغريقية مثل معبد زيوس ومعبد أبولو ، إلى جانب مقابر وأحياء سكنية ومناطق مقدسة شكلت جزءاً من البنية المدنية والدينية للمدينة ، وتبرز هذه البقايا طابعاً عمرانياً فريداً يشير إلى ازدهار قورينا في فترات متعاقبة.
صنفت منظمة اليونسكو الموقع ضمن قائمة التراث العالمي عام 1982 تقديراً لأهميته الثقافية وشهادته النادرة على تفاعل الحضارات في منطقة البحر المتوسط ، ويعكس الموقع انتقال النفوذ من الإغريق إلى الرومان الذين طوّروا المدينة وأضافوا إليها عناصر معمارية جديدة دون أن يُلغوا الطابع الإغريقي الأصلي ، وهو ما يُعطي شحات قيمة استثنائية في تاريخ المدن الكلاسيكية.
استقطب الموقع اهتمام الزوار والباحثين على مدار عقود ، إذ تسمح إدارة الآثار بتنظيم زيارات ميدانية يومية تبدأ من التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساءً ، وتشمل الجولة مناطق سكنية ومقابر شمالية وأروقة مقدسة ، وتستغرق الزيارة من يوم إلى يوم ونصف ، وتوفر للزائر فرصة فريدة للتنقل بين الأزمنة ومشاهدة فنون النحت والبناء التي ظلت محفوظة رغم تقلبات الزمن.
أنشئ متحف شحات قرب الموقع ليضم أبرز القطع المستخرجة من أعمال التنقيب ، ويحتوي على توابيت ولوحات فسيفساء ومنحوتات حجرية ترجع إلى العصور الإغريقية والرومانية وحتى الإسلامية ، ما يدل على تعاقب الثقافات وتواصلها في هذه المدينة القديمة التي ما زالت تحافظ على ملامحها الأولى رغم مرور آلاف السنين.
ساهمت شحات في تشكيل هوية ليبيا التاريخية كجسر بين الشرق والغرب ، وبقيت دليلاً على الغنى الحضاري الذي مرّ على البلاد ، ويُعد الاهتمام المستمر بهذا الموقع ضرورة وطنية وعالمية لحمايته من الإهمال أو التهديدات البيئية ، كما يشكل فرصة لتعزيز السياحة الثقافية وبناء ذاكرة تاريخية راسخة للأجيال القادمة.
المصدر: اليونسكو