تُعدّ كنيسة القديس أبو سرجة، التي عُرفت رسمياً باسم كنيسة الشهيدين سرجيوس وواخس، صرحاً أثرياً لا يُضاهى يقع في قلب مجمع الأديان التاريخي بالعاصمة المصرية القاهرة، إذ تجسد عمق التراث القبطي في مصر.
شُيّدت هذه الكنيسة العريقة في القرن الرابع الميلادي، فوق أطلال حصن بابليون الروماني القديم، ما يجعل تاريخها موضع شك بين أواخر القرن الرابع والقرن السابع الميلادي، لكن الأرجح أنها تعود لمنتصف القرن الخامس الميلادي لتكون واحدة من أقدم الكنائس الباقية.
اكتسبت الكنيسة أهميتها الروحية والتاريخية الكبرى لكونها بُنيت في البقعة المباركة التي يُعتقد أن العائلة المقدسة (السيدة مريم العذراء، والطفل يسوع، والقديس يوسف النجار) قد أقامت فيها واختبأت خلال رحلة هروبها إلى مصر من بطش هيرودس ملك اليهود.
يُكرم المصريون من خلال هذا الصرح الشهيدين سرجيوس وواخس، اللذين كانا قائدين في الجيش الروماني واستُشهدا في سوريا في القرن الرابع الميلادي على يد الإمبراطور ماكسيميان، وقد اختصر المصريون اسم الكنيسة بمرور الوقت إلى “أبو سرجة” بدلاً من أبونا سرجيوس.
تكمن الميزة الأكثر إثارة للاهتمام في الكنيسة في المغارة الواقعة أسفل الهيكل، والتي يصل عمقها إلى حوالي عشرة أمتار، ويُقال إنها المكان الذي استراحت فيه العائلة المقدسة بعيداً عن أعين جنود الرومان.
تتميز المغارة بوجود بقايا ينابيع المياه القديمة، التي يُعتقد أنها كانت مصدر الشرب للسيدة مريم العذراء وابنها خلال فترة إقامتهم في هذا المخبأ.
صُمّمت الكنيسة على الطراز البازيليكي التقليدي، وهو نمط معماري كان شائعاً في الكنائس المبكرة، إذ تتكون من مساحة عرضية وثلاثة أروقة طولية تفصل بينها صفوف من الأعمدة الكبيرة، بالإضافة إلى حنية شرقية تقع أسفلها المغارة مباشرة.
تتكون الكنيسة من صحن رئيسي واسع وجناحين جانبيين، يفصل بينهما اثنا عشر عموداً، صُنع عشرة منها من الحجر واثنان من الرخام والجرانيت الوردي، وتُزين تيجانها الكورنثية رؤوسها الأثرية.
ترجع هذه الأعمدة تحديداً إلى القرنين الثالث والرابع الميلاديين، وتحمل بعضها رسوماً بالحجم الطبيعي تمثل الرسل والقديسين، ما يجعلها من أقدم الآثار الفنية داخل الكنيسة.
تُزين الكنيسة مجموعة من أندر وأقدم الأيقونات القبطية التاريخية، التي تعود بعضها إلى القرون التاسع والثالث عشر وحتى الثامن عشر، وتُصوّر قصصاً مهمة من الكتاب المقدس وأحداثاً من التاريخ المسيحي المبكر.
يُلاحظ الزائر جمال سقف الكنيسة البديع المرتفع، الذي تم تطعيمه بالخشب بشكل فني متقن، كما يجد حجاباً خشبياً مزخرفاً مطعماً بالعاج والأبنوس يفصل بين صحن الكنيسة والهياكل الثلاثة، رغم استبدال المنبر الخشبي بمنبر رخامي حالياً.
مرّت الكنيسة بسلسلة من الترميمات وإعادة البناء عبر العصور، فقد تعرضت للحريق خلال حريق الفسطاط الكبير في عهد مروان الثاني حوالي عام 750 ميلادي، لكنها رُممت وأُعيد بناؤها بشكل مستمر منذ القرن الثامن.
اتخذ البطاركة الأقباط من هذه الكنيسة مقراً مؤقتاً لإقامة قداس الشكر بعد تكريسهم بالإسكندرية في فترات تاريخية مختلفة، فقد أقام فيها البابا ميخائيل السادس والأربعون قداس شكر هام، وانتُخب فيها البابا شنودة الخامس، ما رفع من شأنها الروحي.
تُعتبر الكنيسة اليوم نموذجاً فريداً للكنائس القبطية المبكرة، وهي مقصد سياحي عالمي هام، خاصة بعد إدراج مسار العائلة المقدسة كمزار عالمي ضمن اهتمامات الدولة والمنظمات الدولية.
ظلت كنيسة أبو سرجة، جنباً إلى جنب مع المواقع الأخرى في مجمع الأديان، مركزاً يجمع مختلف الحضارات والأديان في منطقة واحدة، شاهداً على التسامح والتعايش التاريخي في مصر.