شهد الموقع الأثري في قرطاج تحولات كبيرة على مدى القرون، إذ تأسس على أنقاض مدينة كانت من أعظم المدن المتوسطية في العصور القديمة، وصُنّف كموقع تراث عالمي من قبل منظمة اليونسكو عام 1979، نتيجة لقيمته التاريخية والحضارية التي تعود إلى الفترة البونية والرومانية والبيزنطية.
ويمتد الموقع حالياً ضمن حدود مدينة قرطاج الحديثة في تونس العاصمة، ما يجعله مهدداً بضغط التوسع العمراني ومخاطر الإهمال.
يشكل تلة بيرصا مركزاً رمزياً وتاريخياً للموقع، حيث كانت القلب النابض لقرطاج البونية، ويظهر على التلة حالياً مبنى كاتدرائية القديس لويس التي بُنيت بين عامي 1884 و1890، في المكان الذي يُعتقد أنه دُفن فيه الملك الفرنسي لويس التاسع مؤقتاً خلال الحملة الصليبية الثامنة عام 1270 قبل نقل رفاته إلى فرنسا.
ويمتد حول التلة حي أثري واسع لا تزال بقايا أعمدته وأرضياته توضح حجم وعظمة المدينة التي كانت تتحكم في طرق التجارة البحرية وتهيمن على حوض البحر الأبيض المتوسط.
تُظهر الأساسات الباقية واتساع الساحات وتنظيم الشوارع الباقية كيف كانت قرطاج مدينة ذات بنية عمرانية قوية ومترابطة، ورغم أن الكثير من الآثار اختفى بسبب الزمن والنهب والبناء الحديث، ما زالت بعض المواقع الواضحة، مثل الحمامات الرومانية والمدافن البونية، تجذب الزوار وتُستخدم في الدراسات الأثرية.
وتُعرض العديد من القطع المكتشفة في متاحف متخصصة قريبة من الموقع، بينما ظل التحدي الأكبر هو تشتت الآثار على مساحة كبيرة يصعب حمايتها بالكامل.
أثار التمدد العمراني المتسارع الذي شهده محيط الموقع منذ السبعينيات قلق الباحثين التونسيين في مجال الآثار، ما دفع اليونسكو لإطلاق حملة دولية امتدت من عام 1972 إلى 1992 لحماية وإنقاذ ما تبقى من المدينة القديمة، وانتهت بإدراج قرطاج على قائمة التراث العالمي الثقافي، إلا أن التحديات ما زالت مستمرة، خاصة ما يتعلق بتنظيم العلاقة بين المرافق الأثرية والاحتياجات الحياتية للسكان الذين يعيشون في محيط المواقع المكشوفة.
وتواجه السلطات التونسية صعوبات كبيرة في تحقيق توازن بين حفظ الذاكرة التاريخية وضمان استمرار الحياة المدنية الحديثة، لا سيما أن بعض المواقع تقع وسط أحياء مأهولة، ما يجعل من المستحيل أحياناً إحاطتها بأسوار أو فصلها عن النشاط العمراني القائم.
كما تبرز إشكالية أخرى مرتبطة بالسياحة، حيث تتوزع مراكز الزيارة على نقاط متباعدة، ما يعقّد على السائحين والزائرين الحصول على تجربة شاملة دون استخدام وسائل النقل أو التنقل لمسافات طويلة.
وما تزال قرطاج، رغم كل ذلك، حاضرة في الوعي الثقافي والبحث الأثري بوصفها رمزاً لحضارة متوسطية ازدهرت ثم انهارت، لكن آثارها ما زالت تحكي قصص الحروب، والتحالفات، والتجارة، والمعتقدات، التي مرت بها واحدة من أعظم مدن العصور القديمة.
المصدر: اليونسكو