الخميس 1447/05/01هـ (23-10-2025م)
الرئيسية » جولة في التراث » مصر » مرئي » الطعام » “سفير الفقراء” الذي عبر القارات.. الكشري طبق غامض وحّد المذاق من دلهي إلى ضفاف النيل على مرّ قرن

“سفير الفقراء” الذي عبر القارات.. الكشري طبق غامض وحّد المذاق من دلهي إلى ضفاف النيل على مرّ قرن

نشأ الكشري في وجدان المصريين قبل أن يملأ موائدهم، وتحول عبر أكثر من قرن إلى أحد رموز الشارع الشعبي الذي لا يخلو من مطاعمه، فهو الطبق الذي يجمع بين البساطة والنكهة والانتماء، إذ لا تكاد تمر في حي من أحياء القاهرة إلا وتجد رائحة العدس والبصل المحمّر تعبق في المكان وتدلّك على مطعم صغير يزدحم بالناس الذين يقفون في طوابير لاختبار الطعم الذي صار جزءًا من الهوية المصرية.

بدأ الكشري رحلته من الشارع إلى الذاكرة، فمع الحرب العالمية الأولى ووصول قوات من الهند وأستراليا وإنجلترا إلى مصر، تعرّف المصريون على وجبة كان الجنود الهنود يطهونها من الأرز والعدس والسمن، وأطلقوا عليها اسم “كشري”، وهي كلمة هندية من أصل سنسكريتي تعني الخليط أو المزيج، وكان أول ظهور لها في وصف الرحالة ابن بطوطة حين دوّن في كتابه أنه رأى الهنود يطبخون الأرز والشعير ويضيفون السمن ويسمونه كشري.

انتقل الطبق تدريجيًا إلى أحياء القاهرة، وأعجب به المصريون لبساطته وسهولة تحضيره وقلة تكلفته، فصار طعامًا يوميًا لعمال المصانع وسائقي العربات وطلبة المدارس، حتى صار رمزًا للتكافؤ الاجتماعي لأن الجميع يأكله دون تمييز، وكان في بداياته يتكوّن من الأرز والعدس فقط، ثم أضاف الإيطاليون المقيمون في القاهرة المكرونة وأطلقوا عليه اسم “كوتشري”، قبل أن يضع المصريون بصمتهم الخاصة بإضافة الحمص وصلصة الطماطم الحارة ودقة الخل والثوم وحلقات البصل المقلي المقرمشة.

ويرى مؤرخون أن جذور الكشري تعود إلى مصر القديمة، إذ ذكر الكاهن مانيتون السمنودي في كتابه «الجبتانا» أن قرى مصر كانت تُفطر على طبق يُعرف بـ «الكوشير» يتكوّن من العدس والأرز والبصل والثوم والحمص، وكان يُعد طعامًا مقدسًا في طقوس معينة ويُعتقد أن من يخالف ذلك يُعاقب بالمرض أو الفقد، مما يشير إلى أن فكرة الوجبة المكونة من خليط الحبوب والخضروات قديمة ومتجذّرة في الوجدان المصري.

كما كتب الرحالة الإنجليزي ريتشارد فرانسيس برتون في مذكراته أنه شاهد المصريين في السويس يتناولون إفطارهم في الصباح على الكشري المكوّن من العدس والأرز والبصل والسمن والليمون المخلل، وهو ما يبرهن على قدم هذه الوجبة واستمرارها في حياة المصريين اليومية، بينما وصفت صحيفة «تايم أوف إنديا» الكشري بأنه “الوجبة القومية لمصر”، مؤكدة أن المصريين أعادوا ابتكارها بطريقتهم الخاصة حتى أصبحت أكلة تحمل نكهة الشارع المصري وروحه.

تجاوز الكشري كونه وجبة شعبية ليصبح رمزًا للمشاركة، فهو يُقدّم في المحلات البسيطة وعلى العربات في الأسواق، ويتناوله الأغنياء والفقراء بذات الطريقة ومن الأطباق نفسها، فالكشري لم يعد مجرد مزيج من المكرونة والعدس والبصل، بل صار مزيجًا من التاريخ والثقافة والمذاق الذي جمع المصريين حوله منذ قرن ولا يزال حتى اليوم.

المصدر: الوطن

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار