تمثل رحلة العائلة المقدسة إلى مصر أحد أبرز الأحداث الدينية والتاريخية التي حظيت بمكانة فريدة في الضمير الإنساني، إذ تجسد لحظة فارقة في التاريخ المسيحي حين لجأت السيدة العذراء مريم والطفل يسوع ومعهما يوسف النجار إلى أرض مصر، هربًا من بطش الملك هيرودس.
واتخذت الرحلة، التي امتدت في أرجاء مصر من دلتا النيل إلى صعيدها، طابعًا إيمانيًا وإنسانيًا، حيث تركت وراءها معالم مقدسة تحولت إلى رموز للسلام والمحبة، وأصبحت شاهدة على التعايش الديني الذي ميز المجتمع المصري منذ القدم.
جسدت هذه الرحلة، الممتدة على أكثر من 3 آلاف كيلومتر، نموذجًا فريدًا للضيافة المصرية، حيث استقبل المصريون العائلة المقدسة في قراهم ومدنهم، ووفّروا لها الأمان والدعم خلال مسيرتها.
وقد أثمرت هذه الضيافة نشوء العديد من المواقع الدينية التي ارتبطت بمرور العائلة، منها كنائس وأديرة شُيدت في مواقع الاستراحة أو الإقامة، وظلت حتى اليوم مواقع حج وزيارة للمؤمنين من مختلف الطوائف والمذاهب، ما يعكس مدى رسوخ الأثر الذي تركته هذه الرحلة في الروح المصرية.
وشكل تسجيل احتفالات رحلة العائلة المقدسة ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي في اليونسكو حدثًا عالميًا، يعكس الاعتراف الدولي بقيمة هذا المسار المقدس، ليس فقط باعتباره شاهدًا على تاريخ ديني مهم، بل أيضًا بوصفه نموذجًا للتراث الحي الذي يجمع بين الثقافة والدين والسياحة، وقد ساعد هذا الاعتراف في تعزيز الجهود الوطنية لحماية المعالم المرتبطة بالرحلة، وتحقيق التنمية المستدامة للمجتمعات المحلية التي تقع على امتداد المسار، من خلال تنشيط السياحة الروحية والثقافية.
وشهدت مواقع مثل تل بسطة في الشرقية، ومسطرد شمال القاهرة، وسخا في كفر الشيخ، ووادي النطرون، والمطرية، وكنيسة أبي سرجة في مصر القديمة، ودير المحرق بأسيوط، إقبالًا متزايدًا من الزوار والباحثين والحجاج، ممن يأتون لاكتشاف الجذور الروحية والتاريخية لهذا الحدث الاستثنائي.
كما تنظم فعاليات ومهرجانات سنوية للاحتفاء بهذه الرحلة، يشارك فيها المصريون مسلمين ومسيحيين، في مشهد يعكس وحدة النسيج الوطني، ويؤكد على أن رحلة العائلة المقدسة ليست مجرد قصة دينية، بل هي شهادة تاريخية على التسامح والتعايش في أرض السلام.
وتولي الدولة المصرية والمؤسسات الدينية والمدنية اهتمامًا متزايدًا بهذا المسار، عبر مشروعات ترميم وتأهيل المواقع، وتطوير البنية التحتية، وتوثيق الروايات الشعبية المرتبطة بكل محطة من الرحلة، في محاولة للحفاظ على هذا التراث الفريد للأجيال القادمة، ولتحويله إلى مورد ثقافي وسياحي يُسهم في الاقتصاد المحلي ويعزز الهوية الوطنية.
المصدر: اليونسكو