تُعد أكلة “حراق أصبعه” من الأطباق التقليدية العريقة التي اكتسبت شهرة واسعة في منطقة بلاد الشام، وخصوصاً في سوريا، حيث تُعتبر دمشق أبرز المدن التي تشتهر بإتقان تحضيرها وعرضها، تنتشر هذه الأكلة بأسماء متعددة كـ “حرق اصبعو” أو “محروقة اصبع” أو “حراق بأصبعه” في كل من فلسطين، ولبنان، والعراق، مما يؤكد على جذورها المشتركة والعميقة في المطبخ العربي الموحد، ويُذكر أن هناك طبقاً محلياً آخر يُشبهها في المكونات، يُعرف باسم “الططماجه”، وتعود أصوله إلى مدينة الخليل الفلسطينية.
تتشارك النسوة في القرى والمدن الشامية في طبخ هذه الوجبة العائلية والموسمية المميزة، ويقمن بتوزيعها على البيوت المحيطة فيما يُعرف بالـ “سكبات” السخية، ما يعكس روح التعاون والتكافل الاجتماعي الراسخة في المنطقة، يُلاحظ أن بعض ربات البيوت قد يفضلن اليوم استخدام المعكرونة الجاهزة بدلاً من العجين المقطع يدوياً ومجهوداً، بهدف تقليل وقت التحضير الطويل، كما يستبدل البعض الآخر العجين المكور المقلي بقطع الخبز المقلي، للحصول على قوام مقرمش مماثل يزين الوجه، ولكنه أقل في الجهد المطلوب لتجهيزه.

تعتمد الوصفة الأساسية لتحضير “حراق أصبعه” على مزيج متناغم من البقوليات المغذية والنشويات الشهية والنكهات الحامضة والمُعززة للشهية، تُحضر باستخدام العدس البني كعنصر رئيسي ومكون قاعدي للوجبة، يضاف إليه العجين المصنوع منزلياً أو المعكرونة الجاهزة، والبصل المفروم، مع لمسة حامضة قوية مصدرها دبس الرمان المركز، يُتبّل الخليط بعناية بزيت الزيتون البكر، والبهار الأسود المطحون، والملح البحري أو الصخري، مع إمكانية إضافة القليل من الكوسا المقطعة حسب الرغبة الشخصية لتنويع القوام.
تُزين الوجبة النهائية بأسلوب تقليدي وعناية فائقة، وذلك لضمان اكتمال نكهتها ومظهرها الشهي والمُشتهى، تُستخدم على الوجه خلطة مميزة من الكزبرة الخضراء الطازجة المقلاة في زيت الزيتون مع فصوص الثوم المهروس، والتي تضفي رائحة عطرية ونكهة قوية ومميزة، تُضاف قطع الخبز المقلي المقرمشة والبصل المقلي المُحمر وحبات الرمان اللامعة والحامضة، مما يمنح الطبق توازناً مثالياً في القوام والمذاق بين الحلاوة والحموضة، ويُعتبر تقديمها بهذه الطريقة جزءاً من طقوس المطبخ الشامي العريقة.
تُشير التحليلات الغذائية الحديثة إلى أن هذه الأكلة التراثية تُعتبر مصدراً ممتازاً للطاقة، وهي غنية بالبروتينات النباتية الأساسية التي يحتاجها الجسم، تحتوي وجبة “حراق أصبعه” الواحدة، التي يبلغ وزنها تقريباً 180 غراماً، على حوالي 511 سعرة حرارية، ما يجعلها وجبة مشبعة للغاية ومغذية بشكل كبير، تُسجل في هذه الوجبة نسبة دهون منخفضة جداً تقدر بثمانية غرامات فقط، وتتضمن غراماً واحداً فقط من الدهون المشبعة، بينما تتميز بمحتوى بروتينات مرتفع يصل إلى 21 غراماً، ويُعتبر محتواها من الكربوهيدرات هو الأبرز بـ 88 غراماً، مع غياب كامل للكوليسترول الضار.
تُمثل هذه الوجبة مثالاً ساطعاً على براعة المطبخ الشامي المتأصلة في استخدام المكونات الزراعية البسيطة والمتوفرة، لإنتاج طعم غني ومعقد ومتميز في آن واحد، تتداخل النكهة الترابية والحسية للعدس مع الحموضة القوية لدبس الرمان، ودفء الثوم المقلي وزيت الزيتون، لتخلق توازناً لذيذاً يرضي جميع الأذواق والميول، يُعتبر السر في نجاح هذه الأكلة التقليدية هو إتقان التوقيت المناسب لإضافة المكونات، وخصوصاً العجين المصنوع منزلياً، لضمان قوامه الطري والمثالي الذي لا يتفتت أو يصبح ليناً جداً داخل المرق.
تبقى “حراق أصبعه” أكثر من مجرد طبق تقليدي بسيط؛ فهي جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمائدة الشامية، التي تعكس كرم الضيافة والتمسك الشديد بالتراث الغذائي المتوارث، تُجسد هذه الأكلة الفريدة بساطة المكونات المتوفرة محلياً وغنى النكهة المكتسبة بالخبرة والطبخ، لتؤكد على أصالة المطبخ الذي نشأت فيه وتطورت، تستمر الأجيال في تناقل طريقة تحضيرها خطوة بخطوة، محافظةً على اسمها الغريب وتاريخها العريق الذي يعود لمئات السنين، لتظل وجبة دافئة ومغذية تجمع العائلات في كل موسم وتوقيت من السنة.
المصدر: ويكيبيديا