يتألق جامع طينال في مدينة طرابلس اللبنانية كأحد أبرز المعالم التاريخية التي تجسد تفاعل الحضارات عبر العصور، فقد بُني في القرن الرابع عشر في عهد المماليك فوق أطلال كنيسة صليبية ومعبد روماني قديم، وهو ما جعل منه شاهدًا فريدًا على تعاقب الديانات والثقافات في المنطقة، إذ يحمل المسجد في أحجاره وأعمدته تاريخًا متشابكًا يروي قصص التحولات الدينية والسياسية التي شهدتها المدينة.
يجسد المسجد تنوعًا معماريًا لافتًا، حيث استُخدمت في بنائه أحجار مأخوذة من معبد جوبيتير الروماني، كما تظهر في تفاصيله تأثيرات واضحة من العمارة المملوكية والصليبية، وتبرز في جدرانه وزخارفه أنماط دقيقة من النقوش والخطوط العربية التي تعكس مهارة الحرفيين المماليك الذين تركوا بصمتهم في كل زاوية من البناء، وهو ما جعل الجامع تحفة فنية تعبر عن براعة العصور الوسطى في دمج الطابع الجمالي مع الطابع الديني.
يُدرج جامع طينال ضمن القائمة الإرشادية لمنظمة اليونسكو كجزء من مدينة طرابلس القديمة، وهو ما يعكس قيمته التراثية العالمية وأهميته في إبراز الهوية الثقافية للمدينة، إذ أصبح المسجد مقصداً للباحثين في التاريخ والعمارة، إضافة إلى السياح الذين يتوافدون من مختلف الدول لاكتشاف ملامح الحضارة الإسلامية والاطلاع على تفاصيل العمارة المملوكية في لبنان، مما يعزز مكانة طرابلس كوجهة سياحية ثقافية بارزة.
تكشف الدراسات الحديثة عن تفاصيل معمارية دقيقة لا تزال محفوظة في أروقة المسجد، حيث تضم بقاياه نقوشًا وزخارف جصية وأعمدة حجرية ومحاريب مزخرفة، وتُظهر هذه الاكتشافات جوانب من الحياة الدينية التي شهدها المكان عبر القرون، كما تسلط الضوء على الدور الروحي الذي لعبه المسجد في حياة أهل المدينة باعتباره مركزًا للعبادة والتعليم الديني والتفاعل الاجتماعي.
تواجه جهود الحفاظ على المسجد تحديات عديدة مرتبطة بالعوامل البيئية، فالرطوبة العالية تؤثر على جدرانه الحجرية، كما تتطلب صيانته توفير خبرات هندسية متخصصة وموارد مالية مستمرة، وهو ما دفع الجهات اللبنانية إلى التعاون مع منظمات دولية لتأمين الدعم اللازم لمشروعات الترميم والحفاظ على هذا الصرح المعماري الذي يمثل جزءًا من التراث العالمي.
تسعى السلطات اللبنانية إلى تطوير المرافق المحيطة بالمسجد من أجل تعزيز مكانته السياحية، إذ يجري العمل على تحسين البنية التحتية وتنظيم الزيارات بما يحفظ طابع المكان التاريخي ويتيح للزوار تجربة ثقافية متكاملة، ويشكل ذلك خطوة أساسية نحو إدماج المسجد في المسارات السياحية العالمية التي تسعى إلى إبراز التنوع الثقافي والحضاري في لبنان.
يبقى جامع طينال شاهدًا على عبقرية العمارة الإسلامية وثراء التاريخ الذي يميز مدينة طرابلس، فهو يجمع بين الماضي والحاضر في صورة معمارية نادرة، ويظل مصدر إلهام للزوار والباحثين على حد سواء، كما يعكس استمرار جهود لبنان والمجتمع الدولي في الحفاظ على إرث إنساني خالد يمثل ذاكرة حضارية مشتركة تتجاوز حدود الزمان والمكان.
المصدر: اليونسكو