يُعدّ متحف بيت ديكسون صرحاً معمارياً يطل على ساحل الخليج العربي، يقف شامخاً شاهداً على مراحل تاريخية مفصلية وحاسمة في تاريخ دولة الكويت الحديث، ويجمع هذا البيت بين ماضٍ لعب فيه دور المقر الرسمي للمعتمد البريطاني، وحاضرٍ يؤدي فيه دوراً تنويرياً بالغ الأهمية، من خلال نشاط ثقافي وحضاري مميز.
وما زال البيت يحافظ على طرازه المعماري الذي يُعد الأقدم في البلاد، ويحتفظ بين جنباته بعبق التاريخ الأصيل، وقصص وحكايات موثقة لأشهر قاطنيه، وكيفية اندماجهم في النسيج المجتمعي الكويتي.
شُيد بيت ديكسون في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، على موقع استراتيجي مطل على البحر وبالقرب من قصر السيف العامر، وتعود ملكيته الأصلية إلى أسرة آل الصباح الكريمة، ويُعتقد أن تجاراً كويتيين كانوا يمتلكونه في البداية، حيث استُخدم كمخزن للبضائع وسكن مؤقت.
أصبح البيت مقراً وسكناً للمعتمد السياسي البريطاني في الكويت منذ عام 1904م، واستمر في هذه الوظيفة حتى عام 1935م، وذلك عقب الاتفاقية التاريخية التي وُقعت بين الشيخ مبارك الكبير وبريطانيا في عام 1899م، ويُستخدم حالياً كمركز ثقافي ومتحف للعلاقات الكويتية البريطانية.
يتألف البناء الأصلي للبيت من مجموعة من الغرف في الطابق الأرضي، وتبرز في الواجهة الأمامية المطلة على البحر بائكة متميزة، تتكون من أربعة أقواس مدببة تعكس جمال العمارة التقليدية.
وتوجد خلف البائكة غرف لها دهليز عريض ومرتفع، يبدأ من الممر الأمامي وينتهي إلى الحوش (الفناء) الخلفي الواسع، ومن المرجح أن الدهليز استُخدم كديوانية صيفية، لأنه كان معرضاً لتيار هوائي بحري لطيف، كونه مفتوحاً من طرفيه، وحين تحول البيت إلى مقر بريطاني أصبح الدهليز مكاناً مخصصاً لانتظار الزوار العرب الرسميين.
تتسم عمارة بيت ديكسون بالبساطة الأنيقة، شأنه شأن سائر المباني الكويتية التقليدية، حيث شُيدت أساساته من حجر البحر المرجاني المتين، وبُنيت جدرانه من اللبن الطين أو حجر البحر المرجاني السميك، الذي تم ربطه ببعضه البعض باستخدام الطين.
غُطيت الأسقف بعوارض “الشندل” المكونة من جذوع شجر القرم (مانجروف) المستورد من شرقي إفريقيا، وهي جذوع متوازية تُصف عرضاً فوق الجدران، وتُغطى طبقة “الشندل” بطبقة من “الباسجيل” المصنوعة من شرائح أعواد الخيزران التي تُرتب بصفوف متقاطعة.
فرشت طبقة “الباسجيل” بطبقة من “البواري”، وهي نوع من الحصير المنسوج من الخيزران، وتُغطى هذه الطبقات جميعها بطبقة سميكة من الطين المخلوط بالقش، يبلغ سمكها حوالي عشرين سنتيمتراً، وتُخلط هذه الطبقة الأخيرة بالرماد، لزيادة فاعليتها كعازل للرطوبة ومقاومة للعوامل الجوية.
ينحدر طراز البيت الذي يتميز بوجود الشرفة الكولونيالية الإسبانية، من نمط معماري انتشر في المستعمرات الإسبانية والبرتغالية، وفي مناطق أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي.
برز هذا الطراز في الشرق لاحقاً، وتميز بالشرفة المرتفعة عن سطح البيت، والتي تكون مسقوفة ومكشوفة من الجوانب، وكان الغرض الأساسي منها استقبال أكبر قدر ممكن من نسيم البحر، مما يساعد على تلطيف حرارة بيوت المناطق ذات المناخ الحار جداً.
ساعدت الشرفة في حماية الجدران من امتصاص الحرارة العالية، وخففت من حدة وهج الشمس اللاذع الذي يتسلل من النوافذ، تماماً مثل دور الليوان الممتد أمام الغرف في البيت الكويتي التقليدي.
تبنى المعتمدون السياسيون والأوروبيون المقيمون في الخليج هذا الطراز خلال القرن التاسع عشر، فأقاموا معظم مبانيهم على غرار البيت الكولونيالي الهندي، ومن الأمثلة البارزة بيت الحاكم في بوشهر الذي بدا نسخة طبق الأصل من البيوت الكولونيالية الهندية.
يختلف بيت ديكسون عن تلك المباني، لأنه لم يُنفذ وفقاً لخطة معمارية كولونيالية من البداية، بل جرى تعديله لاحقاً، ليتحول عن أصله التقليدي المحلي إلى هذا النمط المعماري الهجين.
وصل الكولونيل نوكس، وهو أول معتمد بريطاني يُعيَّن في الكويت، في شهر أغسطس من عام 1904م، واشتهر بقيامه برحلة استكشافية داخلية على ظهر الجمل، متوغلاً في عمق الصحراء حتى وصل حفر الباطن، الذي يقع على بعد مئة وستين ميلاً غربي الكويت، ولم يزره أي أوروبي قبله.
كان البيت مؤلفاً من طابق أرضي وحوش خلفي، وواجهة بأقواس مدببة تطل على البحر، تقع خلفها المخازن وربما غرف المعيشة والاستقبال، حين تسلمه الكولونيل نوكس (1904-1909م).
ارتفع على السطح غرف متفاوتة الأغراض، بُنيت عند حافة السطح، لتلتقط النسيم البارد في المساء، وتخللتها ساحة مفتوحة استُخدمت كمكان للنوم في فصل الصيف الحار.

تولى الكابتن شكسبير (1909-1915م) مهام منصبه كمعتمد جديد بعد انتهاء خدمة الكولونيل نوكس، وربطته صداقة حميمة بالشيخ مبارك الكبير، بعد أن شابت علاقتهما برودة في البداية.
كان شكسبير حاد الطبع ومتهوراً، ولكنه كان شجاعاً ومقداماً، حيث قام في عام 1913م برحلة طويلة على ظهر الجمل من الكويت إلى العقبة، واستغرقت هذه الرحلة ثلاثة أشهر كاملة.
تعرف شكسبير على الملك سعود في الكويت عام 1910م، وفي يناير عام 1915م، قاتل بشجاعة إلى جانب السعوديين ضد قوات ابن رشيد في معركة جراب، وقُتل آنذاك وعمره ستة وثلاثون عاماً، تاركاً وراءه سمعة طيبة وذكراً حسناً، نُصب له نصب تذكاري في مقبرة صغيرة للمسيحيين في الكويت، وهي نفس المقبرة التي دُفن فيها الدكتور ميليريا عام 1952م.
أحدث الكابتن شكسبير تأثيراً كبيراً في طراز بيت ديكسون المعماري، حيث أجرى عليه أهم التعديلات الجذرية، وحوّله من نمطه العربي التقليدي المحلي إلى مزيج فريد يجمع بين هذا الطراز والطراز الكولونيالي الجديد.
من أهم تعديلات شكسبير كانت الشرفة المرتفعة، التي ساعدت في تحويل البيت إلى النمط الكولونيالي المميز، وتعاقب على المنصب بعد الكابتن شكسبير عدد من المعتمدين البريطانيين لفترات قصيرة متفاوتة، ومنهم الكولونيل جراي، والكولونيل هاملتون.
جاء بعدهم الكابتن لوش الذي اختار السكن في مبنى الحجر الصحي (الكوارانتين) القديم بمنطقة الشويخ، ولم يسكن في بيت ديكسون، ثم تولى المنصب الكابتن ماكولام، وفي عام 1920م، جاء الكولونيل مور الذي استمر في منصبه حتى عام 1929م، كان مور عالماً باللغة العربية الفصحى، وتمتع بحنكة سياسية كبيرة، وسعى دائماً ليكون مثالاً للرجل البريطاني في احترام عمله ومهنيته.
تولى الكولونيل هارولد ديكسون منصب المعتمد البريطاني بعد الكولونيل مور، وتميز بمهارة وحنكة سياسية كبيرتين، وخدم الكويت بحماس عظيم فاق حماس أي مستشار بريطاني آخر.
أمضى ديكسون معظم وقته في الصحراء، حيث كان يشعر بالراحة وكأنه في وطنه الأصلي، وأُعجب بأسلوب الحياة العربية وقيمها وسلوكيات أهلها ومبادئهم.
أحب ديكسون البدو وتحدث بلهجتهم المحلية بطلاقة، وأكسبه هذا التعلق المخلص للجزيرة العربية وأهلها ثقة الحكام والمحكومين على حد سواء، فكان صديقاً وفياً للكويت وأهلها.
كانت معرفة ديكسون العميقة بأهالي الصحراء وطريقة تفكيرهم ونظرتهم للأمور ذات قيمة كبيرة جداً لبريطانيا، حيث ساعدت في تشكيل سياستها تجاه منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية، وإلى جانب نشاطه السياسي وحنكته، كان ديكسون رساماً ماهراً بالألوان المائية، مما يشير إلى سمة رومانسية في شخصيته.
ساهم الكولونيل ديكسون وزوجته السيدة فيوليت، نظراً لتمكنهما من اللغة العربية ودبلوماسيتهما وحبهما لأهل المنطقة، في تدوين تاريخ الكويت الثقافي والاجتماعي.
سجّلا ملاحظاتهما المتنوعة والقيّمة عن البلد في كتب مثل “عرب الصحراء” و”الكويت وجاراتها” التي ألفها الكولونيل ديكسون، وكتبت السيدة فيوليت كتباً مهمة مثل “أربعون عاماً في الكويت” و”الأزهار البرية في الكويت والبحرين”، كما ألفت ابنتهما زهرة كتاباً بعنوان “الكويت كانت وطني”.
غادر الكولونيل ديكسون البيت في عام 1935م لفترة وجيزة مدتها سنة واحدة، وذلك بعد اكتمال بناء مقر المعتمد البريطاني الجديد، الذي هو حالياً مبنى السفارة البريطانية وبيت السفير، وبعد تقاعده من الخدمة السياسية عام 1936م.
عيّنه الشيخ أحمد الجابر الصباح، بعد تقاعده وهو في الخامسة والخمسين من عمره، في منصب الممثل المحلي الأعلى لشركة نفط الكويت، التي كانت قد أُنشئت حديثاً في عام 1934م، وهكذا ارتبط اسم ديكسون ارتباطاً وثيقاً بإنشاء الشركة وبتطوير عملية استكشاف النفط في الكويت.
انتقل ديكسون في ذلك الحين للسكن مجدداً في بيته السابق المطل على الواجهة البحرية، وعاش فيه حتى وافته المنية في عام 1959م، وواصلت أرملته السيدة فيوليت السكن في هذا البيت تلبيةً لوصية زوجها، وسمح لها أمير البلاد بمواصلة استخدام البيت.
حظيت السيدة فيوليت، التي عُرفت بين الكويتيين باسم أم سعود، بمكانة محترمة في كل مكان، ومُنحت لقب “الشريفة” من بلدها بريطانيا في عام 1976م، وعاشت في بيت ديكسون حتى عام 1990م.
نُقلت السيدة فيوليت إلى بريطانيا أثناء الغزو العراقي، وتوفيت هناك في شهر يناير من عام 1991م، بعد أن تركت بصمة لا تُمحى في تاريخ الكويت الحديث.
كان البيت في حالة سيئة للغاية حين تسلمه الكولونيل هارولد ديكسون في مايو 1929م، مما فرض عليه، بالتعاون مع زوجته فيوليت، إجراء عمليات إصلاح وإعادة بناء مستمرة، استمرت طوال فترة إقامتهم في البيت، قام بإجراء عمليات الترميم والإنقاذ بنّاء كويتي من أصل إيراني، اسمه الأستاذ أحمد، حيث استخدم مواد البناء التقليدية الأصيلة في عمله، ودعم الأساسات بالصخور البحرية لزيادة متانتها.
بنى الأستاذ أحمد أربع دعامات قوية على امتداد الأعمدة في البائكة الأمامية، وذلك لتمكينها من تحمل الثقل الكبير الواقع عليها من الطابق العلوي، وعلى الرغم من هذه الإصلاحات الشاملة التي تمت في عام 1929م، فقد تسببت الأمطار الشتوية الغزيرة بمشاكل أخرى، حيث جرفت طبقة الطين التي تغطي السطح، مما استدعى استبدالها بطبقة جديدة وعازلة.
شارف جدار غرفة الطعام الجنوبي على الانهيار في وقت لاحق، وأصبح من المستحيل أن يسند سقف الغرفة بأكمله، مما دفع ديكسون لشق سارية قارب المعتمدية إلى نصفين، وساند بهما عوارض السقف ليمنعها من السقوط المأساوي.
توسعت الشرفة الشرقية في هذا الوقت أيضاً، وبعد القيام بالإصلاحات الرئيسية الضرورية، لم يطرأ على البيت أي تغييرات أو تعديلات إضافية لمدة خمسة عشر عاماً متتالية، حدث تغيير كبير وجذري في بيت ديكسون في عام 1959م، عندما انهار جناحه الغربي نتيجة لتلف إنشائي كبير، مما استدعى إعادة بناء جدرانه وسقفه بالخرسانة المسلحة، بدلاً من مواد البناء التقليدية (الطين والخشب).
توسعت غرفة الطعام في الوقت ذاته من الجهة الجنوبية، فوق غرف الخدم التي وُسعت بدورها باتجاه الحوش الخلفي، واستُخدم سطحها ليكون بمثابة “فيرندا” (شرفة) أمام غرفة الطعام، وخلال هذه التغييرات تم أيضاً سد الأقواس الثلاثة المدببة التي كانت تشكل عنصراً أساسياً من عناصر البيت الأصلية، كما تم شق طريق الواجهة البحرية للمرة الأولى في عام 1956م، مما استدعى إزالة سلمي الشرفة المنحنيين، واستبدالهما بسلم واحد مستقيم ومزوى، ولا يزال قائماً حتى اليوم، شاهداً على التغيرات الحضرية.
المصدر: الخليج