جذبت صلصة الهريسة التونسية اهتمام الطهاة والباحثين في التراث الغذائي، لما تحمله من أبعاد ثقافية وتاريخية واجتماعية، فهذه الصلصة التي ارتبطت باسمها المشتق من الفعل العربي “هرس”، أي طحن أو تفتيت، ليست مجرد توابل حارة تُضاف إلى الطعام، بل تُعد مكونًا أساسيًا في هوية المطبخ المغاربي، خصوصًا في تونس، حيث تُعتبر الهريسة جزءًا من العادات اليومية في إعداد وتقديم الأطباق، وتحمل معها حكاية طويلة من الترحال الزراعي والتأثيرات التاريخية العابرة للقارات.
ينطلق تحضير الهريسة من عملية دقيقة تعتمد على تجفيف الفلفل الأحمر الحار تحت أشعة الشمس، ثم نزع السيقان والبذور وغسله جيدًا، ليبدأ بعد ذلك الطور الأكثر حرفة، وهو طحن المكونات يدويًا باستخدام الرحى أو المدقة الحجرية، وهي أدوات تقليدية ما زال بعض السكان يستخدمونها حتى اليوم، وبعد الطحن يُضاف الثوم والملح والكزبرة وأحيانًا الليمون وزيت الزيتون، لتتحول الخلطة إلى عجينة متماسكة ذات طعم قوي ونكهة مميزة، تُستخدم كصلصة أو مادة أولية في تتبيل الأطعمة واللحوم والخضروات.
وتُظهر مكونات الهريسة التونسية ارتباطًا واضحًا بالمنتجات المحلية ومهارات التحضير المتوارثة عبر الأجيال، كما تشير إلى التنوع الثقافي في شمال أفريقيا، حيث تختلف طرق تحضيرها قليلًا بين تونس والمغرب والجزائر وليبيا، إلا أن الطابع الأساسي يظل واحدًا، قائمًا على الفلفل الحار كمكوّن رئيسي.
وترتبط بداية ظهور الفلفل الحار في تونس، حسب آراء بعض المؤرخين، بفترة الاحتلال الإسباني للبلاد بين عامي 1535 و1574، حيث نُقل النبات إلى الأراضي المغاربية في تلك الحقبة، وبدأت زراعته تدريجيًا، بينما يرى آخرون أن التأثير الأندلسي هو الأبرز، حيث ساهم الموريسكيون الذين هُجّروا من الأندلس في إدخال عادات غذائية جديدة إلى تونس، من بينها استخدام الفلفل الحار بشكل واسع، وقدّموا تقنيات زراعية لم تكن مألوفة من قبل، ما أدى إلى انتشار الفلفل بين المدن الساحلية، وتحديدًا نابل، التي أصبحت لاحقًا مركزًا رئيسيًا لصناعة الهريسة.
واكتسبت نابل مع الوقت شهرة واسعة كمهد لصناعة الهريسة التقليدية، وبرزت كعاصمة فعلية لهذا المنتج، حيث تخصصت عائلات كاملة في صناعة الهريسة وفق طرق متوارثة، وارتبطت بالهوية الغذائية للمنطقة، حتى أصبحت جزءًا من الاحتفالات والمناسبات والعادات المحلية، وتم اعتمادها لاحقًا في الوصفات التجارية لتصديرها إلى مختلف دول العالم.
وتُمثل الهريسة اليوم أحد رموز المطبخ التونسي التقليدي، ويجري العمل على تسجيلها ضمن التراث غير المادي لدى اليونسكو، في محاولة لحمايتها من الاندثار أو التشويه التجاري، وإبرازها كموروث غذائي له جذور تاريخية تعود إلى قرون، وتشكّل جزءًا من الهوية المغاربية التي مزجت التأثيرات الأندلسية والإسبانية والإفريقية في طبق حارّ بطعم التاريخ.
المصدر: الجزيرة نت