يُعد التراث الصناعي للأخشاب في الدول العربية من أغنى الفنون التي جمعت بين الوظيفة الهندسية والجمالية الرفيعة، حيث شكّلت النجارة التقليدية والحفر على الخشب عنصراً أساسياً في بناء وزخرفة العمارة العربية.
تتجلى أهمية هذه الحرفة في استخدامها لتزيين المنازل والقصور والمساجد على حدٍ سواء، مما أضفى طابعاً جمالياً وروحانياً فريداً على الفضاءات المعيشية والدينية، اشتهرت مدن مثل القاهرة ودمشق وحلب وصنعاء وبعض مدن الحجاز بهذا الفن، حيث كانت بيئاتها الحضرية تحتضن أمهر النجارين والحفارين.
يبرز فن صناعة “المشربيات” كواحد من أهم وأبرز عناصر هذا التراث الخشبي، وهي نوافذ وشرفات خشبية بارزة تُبنى على واجهات المباني، وتُزخرف بالنقوش الهندسية والزخارف النباتية المعقدة.
تُظهر المشربيات عبقرية معمارية مذهلة في التكيف مع المناخ الحار، حيث تسمح بمرور الضوء والهواء بشكل غير مباشر، فتعمل كمرشحات حرارية، مما يخفض درجة حرارة المبنى الداخلية.

تُلبي هذه المشغولات الخشبية المتطلبات الاجتماعية للخصوصية، إذ تسمح لساكني المنزل بالرؤية إلى الخارج دون أن يتمكن المارون من رؤية الداخل، فكانت بمثابة “مكيف هواء” طبيعي قديم وستار بصري ذكي.
تتضمن الصناعات الخشبية التقليدية مهارات فنية وتقنية بالغة الدقة، مثل فن “التعشيق الخشبي”، وهو تقنية ربط القطع الخشبية ببعضها البعض دون استخدام المسامير أو المواد اللاصقة.
يُستخدم هذا الفن المعقد في صناعة النوافذ والأبواب والمشربيات، حيث تتداخل القطع المقطوعة بأشكال هندسية دقيقة لتشكل وحدة متماسكة ومتينة، مما يدل على براعة الحرفي ومهارته الهندسية.
تُضاف إلى ذلك مهارة الحفر والنحت على الأخشاب لإنشاء الزخارف البارزة والغائرة التي تزين الأبواب الخشبية الضخمة، والمنابر الدينية في المساجد، والأسقف الخشبية الملونة.
تشمل الصناعات الخشبية أيضاً صناعة الأثاث المنزلي التقليدي، مثل الصناديق الخشبية المزخرفة كـ “المندوس” في منطقة الخليج العربي، والذي كان يستخدم لحفظ الملابس والمجوهرات والأوراق الهامة.
تُعد المنابر والمحاريب الخشبية المنحوتة في المساجد من روائع الفن الإسلامي الخشبي، حيث كانت تُزين بالخطوط الكوفية والزخارف الهندسية، مما يعكس البعد الروحي والجمالي لهذه الحرفة.
حافظت دول مثل المغرب واليمن على استمرارية هذه الحرف، حيث لا تزال الأسواق القديمة فيها تعرض أعمالاً خشبية مصنوعة بالطرق التقليدية، وتحظى بإقبال كبير من الزوار.
يُواجه هذا الإرث الفني تحديات الحداثة وارتفاع تكلفة الأخشاب الطبيعية، مما هدد بانحسار عدد الحرفيين الذين يتقنون أسرار التعشيق والنحت التقليدي.
تُبذل جهود ثقافية وترميمية في المدن التاريخية للحفاظ على المشربيات والأبواب الخشبية القديمة، واعتبارها كنوزاً معمارية يجب صونها للأجيال القادمة.
يبقى فن النجارة التقليدية شاهداً على الذوق الرفيع للحضارة العربية، وقدرتها على تحويل مادة بسيطة مثل الخشب إلى رمز للجمال، والخصوصية، والتكيف البيئي الذكي.
المصدر: عربي بوست