يتألق المسجد المنصوري الكبير في قلب مدينة طرابلس شمال لبنان كواحد من أبرز المعالم الإسلامية التي تعكس عظمة العمارة المملوكية، فقد شُيّد بين عامي 1294 و1314 ميلادية بأمر أبناء السلطان المنصور قلاوون تخليدًا لذكراه، وجاء بناؤه في مرحلة شهدت ازدهارًا حضاريًا واسعًا في بلاد الشام، وهو ما جعله رمزًا معماريًا ودينيًا بارزًا استمر أثره حتى اليوم.
يبرز المسجد بروعة فن العمارة الإسلامية القديمة من خلال قبته وزخارفه التي تكشف عن مهارة الحرفيين المماليك، حيث تزين جدرانه نقوش دقيقة وزخارف جصية متقنة تعكس إبداع الفن المملوكي، وقد كان في عصره مركزًا دينيًا وثقافيًا يستقطب العلماء وطلاب العلم ويؤدي دورًا محوريًا في الحياة الروحية والاجتماعية لسكان طرابلس.
يدرج الموقع حاليًا ضمن القائمة الإرشادية لمنظمة اليونسكو باعتباره جزءًا من مدينة طرابلس القديمة، وهو ما يعزز قيمته التراثية العالمية ويضعه في دائرة الاهتمام الدولي، إذ يستقطب المسجد أعدادًا كبيرة من السياح والباحثين من مختلف الدول الذين يزورونه لاكتشاف جماليات العمارة الإسلامية واستكشاف تاريخ المدينة العريق، ما يجعل منه وجهة رئيسية ضمن مسار السياحة الثقافية اللبنانية.
تكشف الدراسات الأثرية والمعمارية المتواصلة عن تفاصيل مبهرة داخل المسجد، حيث عُثر على محاريب وأعمدة مزخرفة ونقوش جدارية معقدة تعكس الدقة التي تميز بها الحرفيون في العهد المملوكي، كما تظهر بعض التأثيرات البيزنطية والإسلامية في أسلوب البناء والزخرفة، وهو ما يجعل المسجد تجسيدًا حيًا لتنوع الإرث الثقافي في المنطقة.
تواجه جهود الحفاظ على المسجد تحديات بيئية خطيرة، إذ تؤثر الرطوبة والعوامل المناخية على جدرانه الحجرية، وهو ما يتطلب خطط صيانة دقيقة وموارد مالية مستمرة لضمان استقرار البنية وحمايتها، وتعمل السلطات اللبنانية بالتعاون مع خبراء محليين ودوليين على ترميمه بما يحافظ على أصالته ويطيل عمره كأحد أبرز معالم المدينة.
تسعى الدولة اللبنانية إلى تعزيز مكانة المسجد من خلال تطوير البنية التحتية المحيطة به وتحويله إلى مركز جذب سياحي رئيسي في طرابلس، إذ يشكل المسجد رابطًا بين الماضي والحاضر بما يحمله من قيمة دينية وتاريخية، ويمنح الزوار فرصة للتعرف على العمارة الإسلامية المملوكية ويؤكد دوره كرمز لتراث طرابلس العريق.
تبرز الاكتشافات المرتبطة بالمسجد تفاصيل عن الحياة الدينية القديمة، حيث تشمل البقايا فسيفساء وأعمدة ومحاريب مزخرفة تعكس أهمية المسجد كمركز روحي، كما تسهم هذه المعطيات في تعزيز الهوية الثقافية اللبنانية باعتباره جزءًا من التراث الوطني، وتدعو الزوار لاكتشاف تاريخ المدينة الذي يروي فصولًا متعددة من الحضارة الإسلامية.
تستمر الأبحاث العلمية في المسجد بهدف كشف المزيد من أسراره، إذ تُجرى الدراسات بعناية لحماية بنيته وتوثيق تفاصيله، ويتوقع الباحثون أن تكشف هذه الجهود عن معطيات جديدة تثري المعرفة بتاريخ العمارة الإسلامية، ومع استمرار التعاون الدولي لحماية هذا الموقع الفريد يظل المسجد المنصوري الكبير شاهدًا خالدًا على عبقرية الفن المملوكي وعظمة العصور الإسلامية المتعاقبة.
المصدر: شبكة رؤية الإخبارية