بدأ المجتمع الموريتاني في تعزيز نظام المحظرة التقليدي باعتباره وسيلة حيوية للحفاظ على المعارف الشفوية والتقاليد الثقافية المتوارثة ، حيث مثّل هذا النظام التعليمي غير الرسمي أحد الأعمدة الأساسية للهوية الثقافية الموريتانية لعدة قرون ، وجرى اعتماده رسميًا عام 2023 ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية من قبل اليونسكو ، بعد إدراج موريتانيا لملف الترشيح رقم 01960 وتقديم الإجابات المطلوبة لهيئة التقييم المعنية.
اعتمدت المجتمعات المحلية على المحظرة كنموذج تعليمي مجتمعي يجمع بين التعليم الشفهي والتنشئة الاجتماعية ، حيث تُعقد الحصص التعليمية داخل خيام مفروشة بالحُصُر والسجاد دون وجود فاصل بين المعلم وطلابه ، ويشارك فيها أفراد من مختلف الأعمار والخلفيات الاجتماعية دون تمييز أو تقييد ، ويتعلم المشاركون خلالها مجموعة واسعة من المواضيع التي تشمل اللغة العربية الفصحى واللهجات المحلية والشعر التقليدي وعلوم الدين والتصوف ، بالإضافة إلى معلومات فلكية وعلمية مستمدة من البيئة مثل طرق تحديد مواقع النجوم واستخدامها في الملاحة الصحراوية ، إضافة إلى معرفة النباتات الطبية وآثار الحيوانات والمطر.
تميّز نظام المحظرة بتقنياته التعليمية التي تعتمد على السماع والحفظ والنقل الشفهي ، كما يقوم على ثقة متبادلة بين المعلم والمتعلم دون وجود مناهج مكتوبة أو تقييم رسمي ، إذ يرتبط طرفا العملية التعليمية بعقد أخلاقي غير معلن يُلزم الطالب باحترام أستاذه والاستفادة من خبرته ، ويُلزم المعلم بالمحافظة على صدق المعلومة ونقلها بدقة ، وهو ما أسهم في تعزيز الترابط الاجتماعي بين مكونات المجتمع الموريتاني بمختلف فئاته.
لا يقتصر دور المحظرة على التعليم فقط ، بل يتجاوزه إلى حفظ الإنتاج الأدبي الشفهي من القصائد والسير والملاحم الشعبية الموريتانية ، والتي يتم تداولها في هذه الجلسات التعليمية بنبرة سردية مؤثرة تعزز الشعور الجماعي بالانتماء الثقافي وتعيد إنتاج الذاكرة الجماعية للمجتمع ، وقد ساعدت هذه الخاصية في مقاومة أنماط العولمة السريعة والاحتفاظ بالهوية الثقافية ضمن أوساط الشباب الذين يُعدّون المستفيدين الرئيسيين من هذا النظام.
جاء اعتراف اليونسكو ليمنح المحظرة دفعة رمزية ومؤسسية تتيح تعزيز الجهود الوطنية لإعادة إحياء هذا التقليد وإدماجه ضمن السياسات التربوية والثقافية الرسمية ، كما يمثل اعترافًا بأهمية النماذج التعليمية المجتمعية التي لا تعتمد على المؤسسات النظامية ، بل تكتفي بالبنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع المحلي في بناء عملية تعلّم مستمرة ومتجذرة ، ويُتوقّع أن تسهم هذه الخطوة في توثيق الممارسات المرتبطة بالمهادرة وضمان نقلها للأجيال المقبلة.
المصدر: اليونسكو