تحتفظ غزة بعاداتها رغم ما مرّ عليها من حروب وأزمات، وتواصل نساؤها إعداد طبق السماقية الذي يُعد أحد أقدم الأطباق الفلسطينية وأكثرها رمزية، إذ يعود تاريخه إلى مئات السنين، ويُحضَّر في المناسبات السعيدة، ليغدو طقسًا اجتماعيًا يجمع الأجيال حوله، ويربط الماضي بالحاضر عبر نكهة لا تتكرر.
ينتظر الغزيون موعد إعداد السماقية بفارغ الصبر، إذ لا تُطهى إلا في المناسبات الخاصة، مثل الأعياد أو الأعراس، وخصوصًا في ليلة “توديع العزوبية” التي تسبق الزفاف، حيث تجتمع العائلات ويتشارك الجميع في تحضيرها، في مشهد يملؤه الفرح، وتختلط فيه رائحة السماق بصوت الأحاديث والضحكات التي تملأ المكان.
تجتمع النساء عادة لإعداد هذا الطبق في مشهد يعكس روح التعاون، حيث تعمل أكثر من عشر سيدات في مطبخ واحد لساعات طويلة، ويُشرف على عملية الطهي سيدة مسنّة لها خبرة طويلة، لتضمن توازن المذاق ودقة الخطوات، فكل حركة داخل “الطنجرة” لها قيمة، وكل مكون يوضع بدقة متوارثة لا تقبل التغيير.

ورغم ثبات مكونات السماقية منذ عقود، فإن الحروب المتكررة على غزة فرضت واقعًا جديدًا جعل من هذا الطبق شاهدًا على صمود الأسر، إذ تحولت في بعض الفترات إلى وجبة “حرب”، لما توفره من مكونات متاحة وسهلة الحفظ دون الحاجة إلى التبريد، مما جعلها رفيقة الغزيين في الأزمات كما في الأفراح.
عرف الفلسطينيون السماقية منذ القدم، وورد ذكرها في كتاب “الطبيخ” للشيخ محمد بن الحسن البغدادي عام 1225، كواحدة من أشهر الأكلات في غزة، وسُمّيت بهذا الاسم لأن السماق يُعد مكونها الأساسي، إذ يمنحها لونها الأحمر المائل للبني، ويُوازن المذاق بين الحموضة والحرارة الناتجة عن الفلفل الأخضر والكمون وعين الجرادة.
وتبدأ عملية الطهي بسلق اللحم على نار هادئة، بينما يُنقع السماق قبل يوم كامل ثم يُطحن بمفراك خشبي، ويُذاب مع القليل من الطحين ليُضاف إلى اللحم والسلق المفروم، ثم تُضاف “الدقة” المكونة من الكمون والفلفل وعين الجرادة، ويُترك الخليط حتى يتماسك، بعدها يُسكب في أوانٍ نحاسية أو فخارية تُعرف بـ“السكرجة” ليبرد ويُقدم جماعيًا في جلسة عائلية كبيرة.
وتتجاوز السماقية وظيفتها كوجبة غذائية لتصبح رمزًا ثقافيًا جامعًا، إذ تُطهى في الأفراح كما في العزاء، ما جعلها تُلقب بـ“طبخة المناسبتين”، ويُطلق عليها بعض الغزيين “الطبخة الكسلانة” لأنها تُحفظ لأيام دون أن تفسد، فيرتاح بال المرأة من عناء الطهي اليومي، بينما تبقى النكهة حاضرة بطعمها الفريد ومكوناتها البسيطة.
ويرى خبراء التغذية أن السماقية مثال على التوازن الغذائي، إذ تحتوي على البروتين الحيواني من اللحم، والبروتين النباتي من الحمص، إضافة إلى فوائد نبات السلق الغني بالفيتامينات ومضادات الأكسدة، ما يجعلها وجبة مغذية ومتكاملة تجمع بين المذاق الأصيل والفائدة الصحية، وتؤكد أن المطبخ الفلسطيني ما زال يحتفظ بثرائه رغم كل التحديات.
المصدر: الجزيرة نت