تُمثل “الساقية” إحدى أهم وأقدم الآلات الهيدروليكية التقليدية التي عرفتها الحضارات الزراعية في الدول العربية، وتحديداً في وادي النيل ومناطق الري على الأنهار في بلاد الشام، فكانت العمود الفقري لعمليات رفع المياه من الآبار والقنوات.
تعتمد الساقية بشكل رئيسي على الطاقة الحيوانية، حيث تُدار بواسطة حيوان (مثل الثور أو الجمل أو الجاموس) يسير في مسار دائري، ليقوم بتحويل الحركة الأفقية إلى حركة عمودية ترفع المياه،تُعد هذه التقنية البسيطة والذكية شاهداً على العلاقة التكافلية بين الإنسان والحيوان والأرض، والتي ضمنت استدامة الزراعة لعصور طويلة.
يتكون هيكل الساقية من نظام تروس خشبي متداخل ومعقد نسبياً، يتكون من ترس أفقي كبير متصل بعمود التدوير، يليه ترس رأسي يُشغّل العجلة الرئيسية لرفع المياه،تُركّب على محيط العجلة الرئيسية سلسلة طويلة من الأواني الفخارية أو المعدنية تُسمى “القلل” أو “الدوالي”، والتي تغطس في مصدر الماء لتمتلئ ثم تُرفع إلى الأعلى،تُفرغ هذه الأواني محتواها المائي في مجرى أو حوض علوي يُسمى “المسقاة”، ومن ثم يتوزع الماء عبر قنوات صغيرة إلى الحقول الزراعية المرتفعة، فكانت هذه الآلية حلاً عملياً لتحديات الارتفاع.
يتم تشغيل الساقية عن طريق ربط الحيوان بعارضة خشبية متصلة بالترس الأفقي، حيث يدور الحيوان في مسار دائري مغلق يُعرف بـ “المَدار”، مما يولد القوة اللازمة لتدوير التروس ورفع المياه.

يُعرف مكان تركيب الساقية عادةً باسم “الساقية”، وتُحيط بها أحياناً جدران منخفضة لحماية الآلية وضمان سلامة الحيوان أثناء الدوران المستمر لساعات طويلة.
تُعد هذه الآلية مثالية للري من الآبار الضحلة أو من قنوات الري ذات المستوى المنخفض، حيث لا يتوفر تيار مائي قوي وكافٍ لتشغيل النواعير الضخمة.
اِقترن استخدام الساقية بالعديد من العادات الاجتماعية والفنون الشعبية في الأرياف، حيث كان صوت التروس الخشبية وحركة الحيوان تشكل إيقاعاً رتيباً ومستمراً للحياة اليومية.
يُطلق على الصوت المميز للساقية اسم “أنين الساقية”، وقد ألهم هذا الصوت الكثير من القصائد والأغاني الشعبية التي تصف مشقة العمل في الحقول، وفي نفس الوقت تصف جمال الحياة الريفية الهادئة،اعتاد الفلاحون على توجيه الأهازيج والنداءات للحيوان لتشجيعه على مواصلة الدوران، مما أوجد تفاعلاً إنسانياً وحيوانياً فريداً في العملية الزراعية.
ساهمت الساقية بدور محوري في ضمان استقرار المجتمعات الزراعية وتنوع محاصيلها، خاصة في المناطق التي تعتمد على زراعة الخضروات والأشجار المثمرة التي تحتاج إلى ري مستمر،أنتج هذا الاستخدام الطويل للساقية جيلاً من الحرفيين المهرة المتخصصين في صناعة التروس وإصلاح الأجزاء الخشبية والفخارية، والتي كانت تتطلب صيانة دورية ومستمرة،على الرغم من استبدالها تدريجياً بالمضخات الآلية الحديثة التي تعمل بالوقود أو الكهرباء، فإن الساقية تظل رمزاً للتراث الزراعي، وتذكيراً ببراعة الفلاح العربي في استغلال الموارد المتاحة.
تُقام اليوم جهود للحفاظ على نماذج من السواقي القديمة وعرضها في المتاحف القروية والمناطق التراثية، وذلك لتوثيق تاريخ الري التقليدي في المنطقة وتوعية الأجيال بأهميته.
تُعتبر الساقية عنصراً تراثياً يعكس قيمة العمل الجماعي ودورة الحياة الزراعية التي كانت تدور وفقاً لإيقاعها الخاص، بعيداً عن صخب التقنيات الحديثة.
تبقى الساقية جزءاً حياً من تاريخ وادي النيل، شاهدة على قدرة الحضارة المصرية وحضارات بلاد الشام على إبداع تقنيات مائية فعالة ومستدامة.