نشأت مدينة جرمة في قلب الصحراء الليبية على يد الجرمنتيين في القرن الأول للميلاد، حيث اختاروها عاصمة لدولتهم الصحراوية، وشكلت لاحقًا أحد أهم المعالم الأثرية في الجنوب الغربي للبلاد.
تقع المدينة ضمن وادي الحياة وتعد اليوم غير مأهولة، لكنها ما تزال تحتفظ ببقايا حضارية تكشف عن مجتمع استقر ونما في بيئة قاحلة، متحديًا ظروف الطبيعة، ومقاومًا للغزاة الذين حاولوا السيطرة على المنطقة في عصور مختلفة.
امتاز الجرمنتيون بقدرتهم على التكيف مع الصحراء، وتمكنهم من إقامة نمط حياة زراعي وتجاري وعسكري فريد، كما برعوا في التواصل مع القبائل الليبية الأخرى، ونجحوا في التصدي للنفوذ الروماني في عدة مواجهات انتهت بوصولهم إلى مشارف لبدة الكبرى سنة 70 ميلادية.
وبالرغم من هذه المواجهات، فقد تحققت فترة من السلم لاحقًا في عهد الإمبراطور سيبتيموس سيفيروس الذي كان ليبي الأصل، وازدهرت فيها التجارة، وبلغت خلالها جرمة أوج قوتها بين القرنين الثاني والثالث الميلاديين، مستفيدة من موقعها على طرق القوافل بين الساحل وبلاد السودان.
كشفت البعثات الأثرية بوضوح عن أن المدينة الإسلامية التي بنيت لاحقًا في نفس الموقع كانت قد أقيمت فوق بقايا العاصمة الجرمنتية القديمة، وقد دلّت هذه الاكتشافات على أن المدينة كانت عامرة وقت دخول المسلمين إليها بقيادة عقبة بن نافع عام 49 هـ، الموافق لسنة 669 ميلادية، وأنها احتفظت بأهميتها الاقتصادية كمحطة رئيسية في طرق التجارة الصحراوية خلال العصور الإسلامية.
توثق المدافن الجرمنتية المنتشرة في وادي الحياة ومحيط زويلة وغدوه ووادي برجوج الامتداد الجغرافي لهذا الشعب، وتؤكد على وجود كثيف وزراعة مزدهرة في مساحة واسعة من الجنوب الليبي، كما تحمل هذه المدافن، التي اتخذ بعضها شكل الأهرامات الطينية وبعضها الآخر هيئة قباب على قواعد مربعة، خصائص معمارية مميزة تتفرد بها حضارة الجرمنتيين، ومنها الشواهد الحجرية على هيئة راحة اليد أو ما يعرف محليًا بـ”خميسة”، وتتقدمها موائد قرابين مصنوعة من الحجر.
يبلغ ارتفاع هذه الشواهد الحجرية بين خمسين سنتيمترًا ومترين، وتؤشر إلى قيم رمزية وروحية اعتاد عليها السكان، وتكررت هذه الرموز أيضًا في النقوش التي عثر عليها في المقابر والمعابد القديمة، ومنها ما وجد في آثار فرعونية، وهو ما يعكس تواصلًا حضاريًا بين شعوب وادي النيل وسكان الصحراء.
تشير هذه المعطيات إلى أن جرمة لم تكن مجرد تجمع سكاني عابر، بل مركزًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا يمتد تأثيره إلى ما هو أبعد من وادي الحياة، وتكشف البقايا الأثرية عن نظام حياة متكامل اعتمد على الزراعة والماء المحفور من باطن الأرض، واستخدم في البناء والخزن والتعبير الرمزي عن المعتقدات، ما يضع المدينة ضمن أرقى نماذج التكيف الحضاري في الصحراء الكبرى.
المصدر: ويكيبيديا