تُعد صناعة الفخار من الحرف الأزلية التي بقيت حية ومستمرة منذ فجر الحضارات، فهي تعود إلى العصور السومرية والمصرية القديمة، وتمثل دليلاً قاطعاً على التطور الإنساني في التعامل مع مواد الأرض.
يُعتبر الطين، المادة الأولية المتوفرة بكثرة، المادة الأكثر سهولة في التشكيل والتحول بعد تعريضها لحرارة النار، مما جعل الفخار ركيزة أساسية في حياة المجتمعات الزراعية والحضرية.
انتشرت هذه الصناعة في كل دول المنطقة، من وادي النيل الخصب إلى بلاد الرافدين، وصولاً إلى المغرب العربي، حيث كانت كل منطقة تستخدم أنواعاً مختلفة من الطين المتاح لديها.
تتضمن صناعة الفخار التقليدية سلسلة من الخطوات الحرفية التي تبدأ بإعداد الطين وتنقيته من الشوائب، ثم تأتي مرحلة التشكيل الرئيسية على “دولاب الفخار الدوار”، يقوم الحرفي الماهر بتحويل كتلة الطين الدائرية إلى أشكال أنيقة ومتناسقة، مستخدماً يديه فقط وخبرته التي اكتسبها عبر سنوات من الممارسة، فكان الدولاب مركز الإبداع، يتبع التشكيل مرحلة التجفيف تحت أشعة الشمس، ثم تليها مرحلة التزيين والنقش بالرسومات والألوان المستخلصة من المعادن والأكاسيد الطبيعية، والتي تضفي على القطعة هويتها الثقافية.

تُعد عملية الحرق في الأفران التقليدية المرحلة الحاسمة، حيث يتعرض الفخار لدرجات حرارة عالية جداً، مما يكسبه الصلابة والمتانة اللازمتين ليصبح مقاوماً للماء والكسر، تُصنع من الطين مجموعة واسعة من الأواني والمنتجات التي تدخل في كل تفاصيل الحياة، مما يؤكد على أهميتها الوظيفية والجمالية، تشمل هذه المنتجات “الجرار” الضخمة التي كانت تستخدم لتخزين الحبوب والمياه وتبريدها، و”الزير” الكبير، بالإضافة إلى الصحون والأكواب والمزهريات.
لم يقتصر استخدام الفخار على الأواني المنزلية فحسب، بل امتد ليشمل قطاع العمارة، حيث كان يُستخدم في صناعة البلاط المزين والقرميد لتكسية الجدران والأرضيات والأسقف.
يُعد الفخار ليس مجرد وعاء عملي، بل هو “حامل للذاكرة الزراعية”، فطريقة صنعه وتزينه كانت تعكس ثقافة المنطقة التي جاء منها، حيث كانت النقوش تتأثر بالزخارف الإسلامية أو الفرعونية أو السومرية، لعب الفخار دوراً حيوياً في حفظ المنتجات الزراعية وتخزينها، مما ضمن الأمن الغذائي للمجتمعات القديمة في مواجهة تقلبات المواسم والجفاف.
يُواجه هذا الفن تحديات كبيرة اليوم بسبب منافسة الأواني البلاستيكية والزجاجية والصناعات الحديثة الرخيصة، مما أدى إلى انحسار عدد الحرفيين، يُحافظ على هذا التراث من خلال المتاحف الحية في القرى والمدن القديمة، حيث لا تزال ورش الفخار تعمل بنفس الأدوات والتقنيات التي كانت تُستخدم قبل آلاف السنين.
يبقى الفخار رمزاً للتواضع والإبداع، ودليلاً على أن أجمل وأكثر الأدوات استدامة يمكن أن تُصنع من أبسط مواد الأرض، وهو الطين، تُعد كل قطعة فخارية اليوم شاهداً صامتاً على تاريخ المنطقة وبراعة أيدي الأجداد في التعامل مع عنصري الطين والنار.
المصدر: ويكيبيديا