يُعدّ فن الحكي والخطابة والزجل الشعبي من الروافد الأساسية, التي تغذي التراث اللامادي للمملكة المغربية, ويشكل هذا الفن وسيلة فعالة لحفظ الذاكرة الجماعية ونقل التجارب الاجتماعية عبر الأجيال، وتتجلى هذه الممارسات الشفوية في المحافل العامة والأسواق والمواسم الاحتفالية, حيث يقف الشاعر أو الحكواتي ليشد انتباه الجمهور ببراعته اللغوية وفنونه الإيقاعية المتنوعة.
يُعرف الزجل في المغرب بأنه شكل من أشكال الشعر العامي المغنى أو المرتجل, يبتعد عن قيود اللغة الفصحى المعقدة ليستخدم اللهجات المحلية الدارجة، ويستخدم الزجالون والمغنون هذه الفنون في التعبير عن القضايا اليومية للمجتمع, ونقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية بأسلوب فكاهي أو ساخر يلامس قلوب العامة.
تعتبر الخطابة أو فن الكلام أحد أعمدة هذا التراث, حيث يتميز الخطيب الشعبي بقدرته على الإقناع واللعب على المشاعر, مستخدماً الإيقاع الصوتي والتقسيم المنطقي للكلمات لجذب المستمعين، ولا تقتصر الخطابة على الخطب الرسمية, بل تشمل أيضاً الأحاديث المرتجلة والمساجلات الشعرية التي تُقام في الأسواق الأسبوعية الكبرى.
![]()
حافظ المغاربة على فنون الزجل والخطابة عبر مدارس شفهية غير رسمية, تنتقل فيها مهارات الأداء والمفردات النادرة من “المعلم” أو “الشيخ” إلى الأجيال الشابة المتعطشة لهذا النوع من التعبير، وتعكس هذه الفنون مرونة اللغة العربية الدارجة وقدرتها على احتواء الشعر والمديح والقصص البطولية والتاريخية.
يُعدّ “الزجل الملحون” نموذجاً بارزاً لهذا التراث, وهو نوع شعري يتميز بقواعده الخاصة في الوزن والقافية, وكان له دور تاريخي في نقل الملاحم والقصص التي لم تُدوّن في كتب التاريخ الرسمية، ويساهم الملحون في توثيق الحرف اليدوية المهنية والمهارات التقليدية, من خلال قصائد تصف تفاصيل صناعتها ومراحل تطورها عبر العصور.
تتجلى الخطابة والزجل في الطقوس الاحتفالية والمواسم الدينية والاجتماعية, مثل الاحتفال بالمولد النبوي والأعراس التقليدية, حيث تُقدم فقرات شعرية وخطابية تمجد المناسبة وتثري الجو الروحاني والاجتماعي، وتُعدّ هذه الفنون عنصراً أساسياً في بناء الهوية الثقافية للمنطقة, إذ تمنح الأفراد شعوراً بالانتماء والتواصل العميق مع تاريخهم.
أدركت المملكة المغربية أهمية هذا التراث اللامادي, وعملت على تسجيل وحماية العديد من أشكاله المختلفة عبر المؤسسات الثقافية المعنية, لضمان عدم تعرضه للنسيان أمام زحف وسائل الإعلام الحديثة، وتبرز أهمية هذا التراث بشكل خاص في المناطق القروية والنائية, حيث لا تزال القنوات الشفوية هي المصدر الرئيسي للمعرفة الثقافية والترفيه.
تُقدم هذه الفنون الشفوية الغنية مادة خصبة للباحثين في الأنثروبولوجيا والأدب الشعبي, لدراسة تطور اللغة الدارجة والمفاهيم الاجتماعية السائدة في حقب زمنية مختلفة، ويظل صوت الشاعر الزجال والخطيب الشعبي صدى للوجدان المغربي الأصيل, يحكي عن أفراح الناس وآلامهم وتطلعاتهم بغد أفضل.
المصدر: الأناضول