السبت 1447/06/01هـ (22-11-2025م)
الرئيسية » جولة في التراث » مصر » مادي » الآثار » دير مصطفى الكاشف في واحة الخارجة يجسد تلاقي التاريخ القبطي والروماني القديم

دير مصطفى الكاشف في واحة الخارجة يجسد تلاقي التاريخ القبطي والروماني القديم

بُني دير مصطفى الكاشف في واحة الخارجة بمحافظة الوادي الجديد في مصر في القرن السادس الميلادي فوق أنقاض قلعة رومانية تعود إلى القرن الثالث، ليصبح شاهدًا على تداخل العصور والديانات في قلب الصحراء المصرية، ويُعد اليوم من أبرز المعالم القبطية الأثرية في صعيد مصر، بما يحتويه من بقايا معمارية تعكس مزيجًا بين الطراز الروماني والقبطي في البناء والتخطيط.

أُقيم الدير في موقع استراتيجي يطل على الطريق القديم الذي كان يربط الواحات بمدن الصعيد، وهو ما جعل المكان مركزًا دينيًا وتجاريًا في الوقت ذاته، إذ شكّل محطة للعبور والتواصل بين الرهبان والمسافرين والتجار، وتُظهر آثاره أن الرهبان الأوائل اختاروا تشييده على بقايا حصن روماني للاستفادة من تحصيناته الدفاعية، حيث كانت الواحات خلال تلك الفترة عرضة لغزوات البدو القادمين من الجنوب والغرب.

سُمّي الدير باسم مصطفى الكاشف نسبة إلى أحد جامعي الضرائب في أواخر العهد العثماني الذي أقام في المكان لفترة من الزمن، ويُعتقد أنه استعمل بعض أبنية الدير القديمة كمقر إداري أثناء فترة عمله، ومنذ ذلك الحين ارتبط الاسم بالموقع حتى صار جزءًا من تاريخه، رغم أن أصله الديني يعود إلى القرون الأولى للمسيحية في مصر، حين كانت الرهبنة القبطية تنتشر في واحات الصحراء الغربية.

يقع في الوادي الجديد.. سبب تسمية دير "مصطفى الكاشف" بهذا الاسم - الوطن

يتكوّن الدير من مجموعة من الأبنية الحجرية التي ما زال كثير منها قائمًا حتى اليوم، منها كنيسة صغيرة ذات قباب منخفضة وجدران سميكة شُيّدت من الحجر الجيري المحلي، وغرف معيشة للرهبان كانت تستخدم للنوم والتأمل، إلى جانب مخازن للحبوب وآبار للمياه وممرات داخلية ضيقة صُممت لحماية الدير من هجمات القبائل، كما تضم المنطقة المحيطة به بقايا أبراج مراقبة رومانية ما زالت تُظهر مهارة البناء القديم في مقاومة عوامل الطبيعة.

تُظهر الدراسات الأثرية الحديثة أن الدير كان في العصور الوسطى مركزًا للرهبنة في واحة الخارجة، حيث استقر فيه عدد من الرهبان الذين ساهموا في نشر التعليم الديني بين سكان الواحات، كما تشير النقوش الجدارية المتبقية إلى وجود طقوس دينية منتظمة كانت تُقام داخله، وتوثّق مراحل مختلفة من الحياة اليومية للرهبان، بدءًا من الزراعة وحتى الكتابة على الجدران بنصوص يونانية وقبطية.

تعمل وزارة السياحة والآثار المصرية حاليًا على توثيق الموقع ضمن مشروع حماية آثار الواحات الجنوبية، إذ أُدرج الدير ضمن القائمة الإرشادية المؤقتة لمنظمة اليونسكو باعتباره جزءًا من منظومة تراثية تضم واحة الخارجة والواحات الصغيرة المجاورة، ويجري تقييم إمكانية ضمه إلى قائمة التراث العالمي لما يحمله من قيمة تاريخية ودينية تعكس التفاعل الحضاري بين العصور القديمة والمسيحية المبكرة.

يُعد دير مصطفى الكاشف اليوم مقصدًا للزائرين والباحثين في تاريخ العمارة القبطية بالصحراء، حيث يجمع بين آثار رومانية تشهد على الماضي العسكري للمنطقة، وبقايا دير قبطي يروي قصة استقرار الإيمان في قلب الواحات، كما يمثل نموذجًا فريدًا لاستمرار الحياة الروحية وسط البيئة الصحراوية القاسية، ويعكس كيف تحولت الحصون القديمة إلى أماكن للعبادة، فصار الموقع مرجعًا أثريًا ودينيًا يوثق مرحلة مهمة من تاريخ مصر المتنوع والممتد عبر القرون.

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار