يقف قصر دار السلطان التاريخي شامخاً في حي العباد، الواقع جنوب مدينة تلمسان العريقة في الجزائر، ليُشكل جزءاً لا يتجزأ من المجمع الديني الأكبر الذي يضم مسجد وضريح سيدي بومدين، ما يجعله معلماً يربط السياسة بالروحانية في نسيج معماري فريد.
يعود تاريخ بناء هذا القصر إلى عام 1339 للميلاد، وهو العهد الذي كانت تسيطر فيه الدولة المرينية على أجزاء واسعة من المنطقة، وقد أمر بتشييده السلطان المريني أبو الحسن علي بن عثمان.
اختار سلاطين بنو مرين هذا الموقع المرتفع، لكونه يطل على مدينة تلمسان بأكملها، مما يمنح القصر موقعاً استراتيجياً ومناظر بانورامية خلابة، فضلاً عن قربه من مقام الولي الصالح سيدي بومدين الغوث.
شُيّد القصر ليكون مقراً لإقامة السلاطين المرينيين أثناء زياراتهم لضريح سيدي بومدين، ويتميز بخصائصه المعمارية المتعددة التي تبرز الفن الإسلامي المغاربي في أوج ازدهاره.
يشتمل القصر على مجموعة من الأروقة والباحات، والممرات المائية الدقيقة، بالإضافة إلى العديد من الغرف المخصصة للسكن والإدارة، ما يعكس التصميم الهندسي المتقن لتلك الحقبة.
يُعرف القصر بكونه يتكون من ثلاثة طوابق، حيث يتميز بأسلوب دخول فريد من الطابق العلوي نزولاً إلى الطوابق السفلية، وكلها تطل على المدينة وتجمع بين آثار الحضارات الزيانية والمرينية والبنايات الحديثة.
![]()
يضم الطابق العلوي للقصر حديقة غناء، تُوفر مساحة للاسترخاء والتأمل في الطبيعة المحيطة والمناظر الشاسعة، بينما خُصص الطابق الأوسط لعدة وظائف حيوية.
يشمل الطابق الأوسط استراحة مُعدة للعلماء، ومطبخاً مجهزاً ومخزناً للمؤن والغذاء، كما يتضمن قاعة للحرس الملكي وجناحاً ملكياً كاملاً يضم غرفاً وملاحق خاصة بالسلطان وحاشيته.
يشبه القصر في معماره وقوة زخرفته قصور تلمسان الأخرى، لا سيما قصر المشور الكبير، حيث تتجلى فيه الأقواس الهندسية والزخارف النباتية والهندسية، علاوة على الخط العربي الذي يحمل آيات قرآنية وأشعاراً وعبارات سلطانية.
جاء بناء هذا القصر بالتزامن مع إنشاء مسجد سيدي بومدين في عام 1339م، وبعد ثماني سنوات فقط، أُنشئت المدرسة الخلدونية بالقرب منه، ليصبح الموقع مجمعاً متكاملاً يخدم الجانب الديني والعلمي والسياسي.
عزز القصر بذلك دور حي العباد كمركز ديني وتعليمي هام في فترة الدولة المرينية، مؤكداً على اهتمام السلاطين بتكريم العلماء والشخصيات الروحانية، ما منح القصر أهمية تفوق مجرد كونه مسكناً صيفياً.
استمر استخدام هذا القصر التاريخي حتى بعد زوال حكم المرينيين وسيطرة ملوك بني زيان على تلمسان عام 1359م، حيث استعمله السلطان الزياني أبو حمو الثاني ومن تبعه كمقر صيفي لهم، ما يعكس قيمته المعمارية والاستراتيجية.
أُهمل القصر وتداعت معظم بيوته وأركانه مع بداية الفترة العثمانية، ثم قبل دخول الجيش الفرنسي، مما أدى إلى فقدان الكثير من زخارفه المعمارية الرائعة، ولم يتبق منها إلا أجزاء بسيطة جداً.
تُجرى في العصر الحديث عمليات ترميم وصيانة مستمرة لهذا الأثر، في محاولة للحفاظ على ما تبقى من عظمة القرن الرابع عشر، وإعادة إحيائه كمعلم سياحي وتاريخي.
يُصنف القصر كأحد كنوز العمارة الإسلامية المرينية في الجزائر، ويشهد حالياً إقبالاً كبيراً من السياح، سواء من داخل الوطن أو خارجه، ليروا عبق التاريخ الذي يمتد لسبعة قرون.
تبقى دار السلطان في العباد شاهداً صامتاً على فترات ازدهار وتراجع متتالية في تاريخ تلمسان، مُحتفظاً بهيبته ومكانته رغم تعاقب الأزمنة، ليظل جزءاً حيوياً من التراث الحضاري للجزائر.
المصدر: ويكيبيديا