يشكل جامع السراي في قلب بغداد معلمًا دينيًا وتاريخيًا عريقًا، إذ بُني عام 589 هـ على يد الخليفة العباسي أحمد الناصر لدين الله، ليكون مركزًا للعلم والعبادة في جانب الرصافة، حيث لا يزال يحتفظ بمكانته بين أقدم الجوامع البغدادية التي تجسد العمارة الإسلامية الأصيلة وروح التاريخ التي تمتد لأكثر من ثمانية قرون.
ويقع الجامع مقابل مبنى القشلة الشهير الذي كان مقر ديوان الحكومة العثمانية، ما منحه ارتباطًا وثيقًا بالحياة السياسية والدينية للمدينة، وكان في بداياته مسجدًا صغيرًا قبل أن يعاد تعميره وتوسيعه في عهد الوالي العثماني حسن باشا الذي خصص له أموالًا طائلة ليصبح بناءً متينًا ذا أركانٍ راسخةٍ وقبابٍ عاليةٍ تبرز جمال الطراز الإسلامي الكلاسيكي.
وتبلغ مساحة الجامع نحو 2500 متر مربع، ويتألف من مصلى شتوي واسع تعلوه عشر قباب متصلةٍ بالجص والآجر، تستند على أربعة أعمدة قويةٍ تتوسط الحرم، كما يضم مصلى صيفيًا على الجهة الغربية مخصصًا للصلوات في أيام الحر، وتعلو الجامع منارة شامخة مبنية بالحجر الكاشاني الملوّن، تميزها البساطة المعمارية وغياب الزخارف التي تشهد على طابع التقشف الفني في العمارة العباسية المتأخرة.

وحرصت السلطات العثمانية على صيانة الجامع وإضافة مرافق جديدة له، فأنشأت فيه مدرسةً دينيةً ومدرسًا خاصًا للتعليم، ومحلًا للتوقيت لتنظيم مواعيد الأذان والصلاة، إضافة إلى غرفٍ خُصصت لسكن خدام المسجد الذين تولوا خدمة المصلين والعناية بالمكان، وقد بلغت أبوابه خمسة أبوابٍ ضخمةٍ كان أحدها يُعرف باسم “باب الملك غازي الأول”، الذي أُضيف خلال الترميم في العهد الملكي تخليدًا لزيارات الملوك المتكررة له.
ويُذكر أن جميع ملوك العراق في العهد الملكي أدّوا الصلاة في هذا الجامع الذي أصبح رمزًا للسلطة الدينية والوطنية في آنٍ واحد، إذ جمع بين قدسية المكان وأهميته السياسية بوصفه أقرب المساجد إلى مركز الحكم في بغداد، وكان من أبرز معالم الجمعة والعيدين طوال قرونٍ مضت.
وحافظ جامع السراي رغم تحولات الأزمنة على دوره في الحياة اليومية للمدينة، فظل منارةً للعبادة ومكانًا يجتمع فيه أهل العلم والطلبة والوجهاء، ويمثل اليوم أحد الشواهد الباقية على العمارة الإسلامية في بغداد التي تعكس مزيجًا من البساطة والصلابة والجمال الوظيفي الذي ميّز المساجد العباسية والعثمانية.
ويُعد الجامع اليوم من أبرز معالم الرصافة الدينية والتراثية، إذ يجذب الزوار والباحثين في تاريخ بغداد الذين يرون فيه جزءًا حيًا من هوية المدينة التي جمعت بين العلم والعبادة عبر العصور، كما تسعى الجهات المختصة للحفاظ عليه باعتباره إرثًا معماريًا يروي قصة امتداد بغداد من زمن الخلافة حتى حاضرها الحديث.
المصدر: ويكيبيديا