يضم الموقع الأثري سبيطلة بولاية القصرين واحدا من أغنى الشواهد التاريخية في تونس، إذ حافظ على ملامح مدينة رومانية مزدهرة عاشت قرونا تحت حكم الإمبراطورية، ثم شهدت التحولات البيزنطية والمسيحية والإسلامية، واستمر ترميمه منذ مطلع القرن العشرين بإشراف المعهد الوطني للتراث الذي يعتني بـ12 معلما أثريا في المنطقة، وتمتد أعمال التنقيب فيه بين سنتي 1906 و1921 ثم بين 1954 و1971، حين أشرف عالم الآثار نوال ديفال على حفريات أعادت إحياء ملامح هذه المدينة.
أسس الرومان سبيطلة في القرن الأول الميلادي، ويُعتقد أن اسمها مشتق من كلمتين أمازيغيتين، الأولى تعني الوادي والثانية تعني النبع، وهو ما يعكس طبيعة المنطقة الخصبة والمليئة بالمياه، وازدهرت المدينة في عهد سلالة الفلافيين الذين تركوا بصمتهم في معمارها المدني والديني، إذ شكلت مفترق طرق يربط شمال إفريقيا بعدة مدن مثل سبيبة وحاجب العيون وسليوم وكبسا، وظلت مركزا تجاريا نشطا حتى القرن الرابع حين تحولت إلى مركز للمسيحية بعد أن أعلن الإمبراطور قسطنطين الأول الدين الجديد ديانة رسمية للإمبراطورية.
شهد الموقع دمارا كبيرا سنة 647 بسبب الحرب بين المسلمين والبيزنطيين، لكن آثاره صمدت وظلت شاهدة على مزيج الحضارات التي مرت به، وبرزت فيه الكنائس والمعابد والمنتديات والمباني العامة التي تعكس ثراء الحياة المدنية في تلك الحقبة، كما يضم الموقع فسيفساء نادرة نُقلت إلى متحف باردو، وتمثل جانبا من الفن الروماني المتأخر الذي جمع بين الرمزية الدينية والزخارف الهندسية.
يحتوي الموقع على الكابيتول، وهو مجمع من ثلاثة معابد مكرسة لثالوث الآلهة الرومانية يوبيتر وجونو ومينيرفا، وقد بُنيت فوق بوديوم مرتفع تحيط به أعمدة كورنثية ضخمة تعلوها أقواس حجرية دقيقة، ويعد هذا المجمع أبرز رموز القوة الدينية والسياسية في سبيطلة الرومانية، وإلى جانبه يوجد المنتدى وهو ساحة عامة مربعة الشكل تبلغ مساحتها نحو 2400 متر مربع، كانت مركزا للحياة الاجتماعية والاقتصادية، وتحيط بها الأعمدة والنقوش وتؤدي إلى غرف استخدمت للمجالس والأنشطة التجارية.
في القسم الجنوبي من الموقع تظهر الحمّامات العمومية التي تعود للقرن الثالث الميلادي، وقد كانت أكثر من مجرد مكان للاغتسال، إذ استُخدمت للتعليم والمحادثة والأنشطة الرياضية، وتضم غرفا بدرجات حرارة متفاوتة ومسابح مزخرفة بالفسيفساء الدقيقة، ما يدل على مستوى الرفاهية الذي بلغته المدينة، أما الجسر المائي فيمتد على وادي سبيطلة بطول 50 مترا، وقد شُيّد بالحجارة الصلبة ودُعم بثلاثة أعمدة ضخمة، ورُمم مطلع القرن العشرين لحماية البنية التحتية من التآكل.
تتوزع في الموقع أيضا أقواس نصر مهيبة أبرزها قوس ديوكلتيانوس الذي بُني تكريما للحاكم الروماني في القرن الثالث، وقوس أنطونيوس بيوس الذي يمثل تحفة معمارية تعلوها ثلاثة أقواس، وقوس سيبتيموس سيفيروس الذي لم يبق منه سوى آثار محدودة، لكن وجودها يؤكد امتداد نفوذ الرومان في إفريقيا الشمالية، كما تضم المنطقة بقايا كاتدرائية بالاتور التي بُنيت في القرن الرابع وتتميز بمعموديتها المزينة بالفسيفساء التي تصور الأسماك رمز الحياة الجديدة، إضافة إلى معابد صغيرة مثل معبد جوكندوس الذي تحول لاحقا إلى مزار ديني بعد دفن الأسقف الوندالي فيه.
يشهد الموقع اليوم اهتماما متزايدا من الباحثين والسياح لما يحمله من تاريخ متنوع، وتعمل السلطات التونسية على تطوير منظومة الإضاءة والإرشاد لتسهيل الزيارات الليلية وحماية النقوش من التلف، ما يجعل سبيطلة نموذجا حيا لتاريخ تونس المتعدد الطبقات، حيث يلتقي الرومان والبيزنطيون والمسيحيون والمسلمون في فضاء واحد لا يزال ينبض بالحياة رغم مرور ألفي عام.
المصدر: ويكيبيديا