تحتفل العائلات الجزائرية بقدوم شهر رمضان بطريقة خاصة، إذ يتحول المطبخ إلى ساحة عمل مليئة بالحركة والروائح، وتجد ربات البيوت في هذا الشهر فرصة لإظهار مهاراتهن في إعداد الأكلات التقليدية التي توارثنها جيلاً بعد جيل، وتبقى “الحريرة” أكثر الأطباق حضوراً على موائد الغرب الجزائري حيث لا تخلو منها أي مائدة إفطار مهما اختلفت الظروف أو المكونات.
يتميز المطبخ الجزائري بتنوع كبير في وصفاته وتاريخه الممتد لقرون، وتُعد الحريرة إحدى علاماته البارزة التي ترمز إلى الثراء الثقافي والتأثير الأندلسي القديم، إذ يجد فيها الجزائريون توازناً بين القيمة الغذائية والطعم الغني، فهي حساء دافئ يجمع بين البقوليات واللحم والخضار والتوابل، ويعتبره كثيرون طبقاً متكاملاً يغني عن وجبة كاملة.
تختلف أسماء الشوربة في الجزائر من منطقة لأخرى، فبينما تعرف في الشرق باسم “الجاري” المعتمد على الفريك، وفي الوسط بشوربة تقليدية ذات نكهة مميزة، يحتفظ الغرب الجزائري باسم “الحريرة” الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً برمضان، إذ لا يبدأ الإفطار إلا بها، وتعد رمزاً للكرم والضيافة في ولايات وهران ومستغانم وتلمسان وسيدي بلعباس.

يرجع أصل الحريرة إلى المطبخ الأندلسي كما تؤكد أغلب الدراسات، إذ انتقلت إلى شمال إفريقيا بعد سقوط الأندلس عام 1491، وذكرت مؤلفات ابن بطوطة وأبو عبد الله محمد أنها كانت وجبة أندلسية تعتمد على الحبوب والدقيق والذرة، ثم وجدت طريقها إلى الجزائر على يد البحارة الأندلسيين الذين أسسوا مدينة وهران في القرن العاشر الميلادي، لتتحول لاحقاً إلى طبق شعبي أصيل في الغرب الجزائري.
ومع مرور الوقت تطورت طرق إعدادها وتنوعت أسماؤها ومذاقاتها، فهناك “حريرة الخضراوات” المشهورة في تلمسان، و“حريرة الزعتر” في وهران، و“حريرة الكروياء” في البليدة، بينما تعرف العاصمة الجزائرية ومدينة بجاية بنسخة مختلفة تسمى “الحريرة القارصة” ذات النكهة الحامضة الناتجة عن إضافة كميات كبيرة من الليمون، وغالباً تُقدَّم معها الحلويات لكسر حموضتها.
تعتمد “حريرة بشار” الواقعة جنوب غرب البلاد على الحبوب والتوابل الكثيفة، مما يمنحها طابعاً صحراوياً مميزاً، وتُحضّر عادة في أوانٍ تقليدية من الفخار لتحتفظ بالنكهة الأصلية، ويُقدَّم هذا الحساء الساخن مع التمر أو الحلويات التقليدية مثل “الزلابية” و“القطايف”، ليمنح الصائمين دفعة طاقة بعد ساعات الصيام الطويلة.
يؤكد كثير من الجزائريين أن طهي الحريرة لا يتعلق فقط بالمذاق، بل هو طقس رمضاني يعبّر عن التواصل العائلي، فإعدادها يحتاج إلى وقت وجهد، وغالباً ما تشترك فيه أكثر من سيدة داخل البيت، مما يجعلها رمزاً للتعاون والتقارب.
وتبقى “الحريرة” بالنسبة لأهالي الغرب الجزائري “أميرة المائدة الرمضانية” التي تتربع على عرش المطبخ كل عام، محتفظة بمكانتها رغم تغير الزمن وتبدل العادات.
المصدر: العين الإخبارية