يبرز جامع يوسف داي في قلب مدينة تونس القديمة كواحد من أهم المعالم الإسلامية التي تركت بصمة واضحة في المشهد العمراني والتاريخي، فقد شُيّد في بدايات القرن السابع عشر ليكون في البداية مصلى صغيراً للصلوات اليومية، ثم تطور لاحقاً ليصبح مسجداً متكاملاً يعكس روعة الطراز العثماني الذي ازدهر في تلك الحقبة، وهو ما جعله أيقونة معمارية وثقافية في العاصمة التونسية.
اندرج المسجد ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 1979 باعتباره جزءاً من مدينة تونس القديمة، وقد جاء إدراجه اعترافاً بمكانته كرمز بارز من رموز التاريخ العثماني في المنطقة، حيث يجذب الزوار من مختلف الدول لاكتشاف طابعه الفريد، وللتعرف على ملامح العمارة الإسلامية التي تجسدت في جدرانه وزخارفه البديعة.
أمر ببناء المسجد يوسف داي، رابع الدايات الذين حكموا تونس، حيث بدأ مشروعه عام 1612 ليكون مصلى صغيراً، ثم تحول عام 1631 إلى جامع متكامل يحتوي على قاعات رحبة للصلاة وأروقة واسعة، إضافة إلى ضريح يوسف داي نفسه الذي أصبح جزءاً من مكونات المسجد، وهو ما زاد من قيمته التاريخية والرمزية.
شهد المسجد عبر القرون سلسلة من عمليات الترميم خاصة في القرن التاسع عشر، حيث عملت السلطات على الحفاظ على بنيانه وزخارفه التي تعكس براعة الحرفيين العثمانيين، وقد ساهمت هذه الجهود في إبقائه محتفظاً بجماله المعماري الذي يجمع بين الأصالة والروحانية، ويُظهر قدرة البنائين على ابتكار تصاميم خالدة.
تتجلى في المسجد ملامح العمارة العثمانية من خلال المئذنة الأنيقة التي تعلو أفق المدينة، والأقواس المزينة التي تزين أروقته، إضافة إلى الزخارف الدقيقة التي تعكس دقة الصناعة الفنية، كما يظهر فيه مزيج من التأثيرات الإسلامية التي تداخلت مع الطابع المحلي، ما يمنحه بعداً ثقافياً وحضارياً مميزاً.
يخضع المسجد اليوم لبرامج صيانة دورية بهدف مواجهة التحديات التي يفرضها الزمن والحفاظ على هيكله التاريخي، حيث تُعطى أولوية كبرى لحمايته ضمن الجهود المبذولة لصون التراث الإسلامي في تونس، وذلك لضمان بقائه ماثلاً للأجيال القادمة كمعلم يجسد الهوية الدينية والثقافية.
يجذب جامع يوسف داي أعداداً متزايدة من السياح والباحثين الذين يقصدونه لاكتشاف تفاصيل العمارة العثمانية، والاستمتاع بالأجواء الروحانية التي يوفرها، كما يمنحهم فرصة للتعرف على جانب من تاريخ تونس العثمانية التي شكلت محطة مهمة في مسارها السياسي والديني.
يقع المسجد وسط أسواق المدينة القديمة المزدحمة بالحركة، حيث يتناغم وجوده مع المشهد الحضري العريق، ويضفي بعداً جمالياً على المكان، إذ يجمع بين الروحانية التي تميز أجواءه الداخلية، والحياة النابضة التي تحيط به من كل جانب، وهو ما يجعل زيارته تجربة متكاملة بين التراث والدين والثقافة.
يمثل جامع يوسف داي أكثر من مجرد بناء ديني، فهو رمز للإبداع الإنساني وتفاعل الحضارات على مر العصور، كما أنه شاهد على الدور الذي لعبته تونس كجسر بين الشرق والغرب في فترات مختلفة، وهو ما يمنحه مكانة خاصة في ذاكرة المدينة وفي الوعي الجمعي للشعب التونسي.
المصدر: اليونسكو